المطران بولس مطر
من لا يذكر بالإعجاب تأكيد دولة الرئيس نبيه بري أن لا علاقة قائمة بين إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان ومجريات الحرب العدوانية التي تشنّها إسرائيل منذ ما يقارب السنة على قطاع غزّة؟ ومن لا يَعجب في المقابل، سواء أكان في لبنان أم خارجه، من عدم إجراء هذه الانتخابات ضمن المهل الدستورية المحدّدة لها، وبخاصة من ربط هذا الإحجام بأحداث تُسجّل أو ترتقب في بلدان من المنطقة أو حتى من العالم الفسيح، من دون أن يكون للبنان علاقة بها أو دور أو أثر معيّن في وقوعها؟
إلاّ أن ما يتخطى العجب والتعجّب حيال مرور أشهر أو حتى سنوات على استحقاق انتخاب رئيس للبنان، هو موقف المسؤولين عندنا ممّن لا يرون في الأمر فداحة أو خسارة وطنيّة قد تؤدّي لا سمح الله إلى خسارة الوطن بالذّات. وقد يكون بعضهم يرمي من هذا التلكؤ إلى تسجيل بعض نقاط لمصلحته السياسية، فيقوى الانقسام بين المواطنين عوض أن تتعزّز الوحدة وتعمّ المصالحة التي نشدناها بعد اتفاق الطائف وعقدنا الأمل على انتصارها، وعلى رجاء جديد نستلهمه للبنان.
إنّ الخسارة المعلنة الأولى في حياتنا الوطنيّة، بفعل مواقفنا السلبيّة من الانتخابات الرئاسيّة، هي بكلّ تأكيد خسارة فقدان السيادة الوطنيّة والاستقلال الناجز الذي هو حق لشعبنا كما لجميع الشعوب. فتدخّل الدول حتى ولو صديقة في عمليّة لا تخصّ إلاّ اللبنانيين وحدهم، لهو دلالة على عجزنا في إدارة شؤون بلادنا إدارة سليمة وكاملة الأوصاف. وكيف لمن يقبل بإعلان عجزه إلى هذا الحدّ أن يسترجع سيادته وأن يصرخ أمام العالم بأسره، مؤكّدًا أنّه قادرٌ على حكم نفسه بنفسه، من دون أن يواجه بالشك حيال قدرته هذه أو بقلّة احترام هذه القدرة وعدم الاعتراف بها واقعًا وقانونًا على السواء؟
غير أنّ أصدقاء لبنان ليسوا في وارد اليأس من حكمة اللبنانيين ولا من قدرتهم على تأمين مصيرهم إذا ما أجمعوا على إنقاذ وطنهم ووحّدوا كلمتهم من أجل هذا الإنقاذ. فليذكروا الصديق الأول للبنان وهو قداسة البابا فرنسيس الذي أوصى حكّامنا أمام السلك الديبلوماسي المعتمد في دولة الفاتيكان بأن يحافظوا على هويّة بلادهم، وهي هويّة الوطن الرسالة والعيش الواحد الكريم بين أهل الديانات جميعًا. وليأخذوا أيضًا عبرة ممّا صرّح به آخر مسؤول كبير زار بلادنا في الأيام الأخيرة، وهو السيد جوزف بوريل، الأمين العام للخارجية في الاتحاد الأوروبي، حين قال للبنانيين وناشدهم أن يعطوا الأولوية لمصالح لبنان فوق أي مصلحة سواها.
وإذا كان إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان قد بات على طريق الحلحلة بعد كلّ المبادرات التي أطلقت من أجل إزالة العقد أمام تحقيقها، فإن العقبة الكبرى متمثلة في إمكان التوفيق بين موقفين ينقسم حولهما اللبنانيون، أولهما موقف التحضير لعملية الانتخاب عبر أيام معدودة تخصّص للحوار بين النواب والتشاور حول المرشّحين لعلهم يصلون إلى مرشح تزكية أو يتفقون على لائحة مرشّحين مقبولين من الجميع، وبعد ذلك تجرى الانتخابات في دورات متتالية تُخصّص لهذا الغرض، وتكون حرة من كلّ قيد سوى قيد الضمير ومحبة الوطن، وثانيهما موقف التمسّك بالدستور الذي لا يشترط إطلاقًا مشاورات قانونية تسبق عمليّة الانتخاب ولا تحضير اسم مرشح يضمن له الفوز حتى قبل عملية الاقتراع، بل يحصر الاهتمام بشؤون الانتخاب وحده، فيأتي الرئيس الجديد من رحم الدستور ويصبح مؤتمنًا عليه عبر قسم يؤديه بالحفاظ على الأمّة وحدودها وعلى دستورها الذي يجب أن يحاط بالإكرام حتى عند إجراء تعديلات في موادّه. أمّا التوافق السياسي فيصير عبر اللعبة الديموقراطيّة حيث الموالون والمعارضون يسهرون معًا، كلّ من مكانه، على ثوابت الوطن وحسن مصيره.
لذا فإنّنا نتمنى على المجلس النيابي عبر مبادرة توفيقيّة جامعة أن يتشبّه بمجلس الكرادلة الذي دعي لانتخاب البابا الحالي منذ سبع سنوات. فقد صدرت عن مجلس الكرادلة دعوة واحدة لانتخاب البابا وليس للقيام بأي عمل عاديّ آخر. لكن الكرادلة، على مستوى التنظيم الداخلي ومن أجل نجاح العملية الانتخابية بسيرها كما بغاياتها، رأوا لبدء هذه العملية فترة صلاة واستلهام، وبضعة أيام قليلة للتشاور في ما بينهم حول حاجات الكنيسة في الزمن الراهن وما هو مطلوب من البابا الجديد لتلبية هذه الحاجات. وبعد ذلك انتقلوا إلى دورات الاقتراع التي جرت كل يوم قبل الظهر وبعده. وبقي التشاور مرافقًا لكل ذلك وكأنّه متلازم مع الاقتراع من أجل حسن سير الأمور، إلى أن تم انتخاب البابا الجديد وعلا في سماء الفاتيكان الدخان الأبيض علامة لبدء عهد جديد.
فهل يمكننا، على غرار ما يجري في الفاتيكان، تصوّر أن يُدعى النواب دعوة واحدة إلى انتخاب الرئيس، وألا تُوجّه إليهم دعوة مستقلّة للتشاور؟ وعند افتتاح الجلسة، وبالتوافق مع رئيس المجلس، يعرضون الشؤون التي تحتاج إليها البلاد في الظرف الراهن ويتداولون موضوع رئيس تزكية أو ترشيحات عدة يفي أصحابها بهذا الغرض. ويكون كل هذا من باب ترتيب ضمن النظام الداخلي وليس من باب إضافة عرف ثابت إلى الدستور المتعلّق بالانتخاب. وبعد ذلك تبدأ عمليّة الاقتراع على دورات متتالية حتى ينتخب الرئيس ويطلع الدخان الأبيض هذه المرة في سماء لبنان.
هل كثير على اللبنانيين أن يجترحوا مثل هذا الحلّ لعقدة التوافق أو التنافي بين الدستور والتشاور الذي يمكنه أن يكون منبثقًا من روح الدستور، وإلاّ يكون مضافًا إليه أو معوقًا لتطبيقه؟
أمّا إذا كنا متمسّكين كل منّا برأي خاص في هذا الموضوع فإنّنا نخشى أن تضيع الانتخابات الرئاسيّة ونجد أنفسنا لا سمح الله أمام أمر واقع لا علاقة له بالانتخابات ولا بمن ينتخبون. فالرجاء أن نعيد النّظر في مواقفنا ونعود إلى إعلاء شأن المصلحة الوطنية العليا للبلاد وإيقاظ الرجاء في قلوب اللبنانيين الذين يساورهم الشك في إمكان إنقاذ بلدهم وإعادته إلى الحياة الطبيعيّة وإلى الحضور الفاعل بين دول العالم وشعوبها. إن الشرق يغلي في الزمن الحاضر مع محاولات لإزاحة خطوط سايكس بيكو المعروفة، من دون أن تحضر البدائل من هذه الحدود، فتأتي هذه الخطوة الخطيرة توغّلاً في المجهول. وقد واجهت منظّمة الوحدة الإفريقيّة قضايا حدوديّة معروفة لدولها، وشبيهة على التقريب بقضايا الشرق الأوسط، فأقرّت بأن تبقي على الحدود الحاليّة في كلّ أفريقيا حفاظًا على السلم بين هذه الدول ومنعًا لاضطرابات فيها تبدأ ولا تنتهي.
إنّ هذه القضيّة معقّدة جدًا، وتصبح خطرة على مستقبل لبنان في حال نزوع بعض القوى في شرقنا نحو إعادة النظر في حدوده وأوضاعه وحقوقه في المياه والممرّات العالمية وفي الحريّات بكلّ أبعادها. فهل نتصوّر أن تطرح كل هذه المواضيع على بساط البحث بين الدول، فيما لبنان لا رئيس له ليجلس إلى طاولة المفاوضات، وعندما تتحوّل بلادنا إلى موضوع من بين المواضيع التي تبحث على الطاولة من دون أن يكون لها مرجع يحميها ويعمل لأجلها؟
حيال كل هذه الأخطار المحدقة بنا، واحترامًا لماضينا وشهدائنا وصونًا لمستقبلنا وأحلام شبابنا، فلنبدأ بانتخاب رئيس للبنان ليطلع الدخان الأبيض في سمائنا إيذانًا لنا بفجر جديد.