وحدهم صنّاع التاريخ من يحق لهم كتابته
أقيم في موسكو اليوم، احتفال لمناسبة مرور 80 عاما على تبادل العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وروسيا، بحضور الممثل الشخصي للرئيس فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط وشمال افريقيا ميخائيل بوغدانوف والنائب السابق أمل أبو زيد والمعتمد البطريركي الانطاكي لكنيسة الروم الأرثوذكس في موسكو المطران نيفان صيقلي وسفير لبنان في روسيا شوقي بو نصار وسفير روسيا في لبنان ألكسندر روداكوف، إضافة إلى سفراء عرب وأفارقة معتمدين في روسيا الاتحادية.
بعد كلمة لكل من الممثل الشخصي للرئيس بوتين نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف والسفير اللبناني في موسكو والمطران صيقلي، ألقى أبو زيد كلمة توجّه فيها بداية “بالشكر والامتنان للسفير ميخائيل بوغدانوف على حضوره ودعمه، وكذلك لسفير لبنان شوقي بو نصار والسفير الروسي ألكسندر روداكوف على تعاونهما ومساعدتهما، وكذلك البروفيسور فيتالي نومكين رئيس معهد الدراسات الشرقية الذي طبع بصمة مميّزة في تطوير علاقاتنا الثنائية”.
وقال: “ندرك أنا والمعنيين في كلا البلدين أهمية مساهماته في هذا المجال، والدكتور فلاديمير ساتوف نائب رئيس معهد الدراسات الشرقية على دعمه اللامتناهي في العديد من الطرق والاتجاهات، وآخرها إطلاق “بوابة المنبر الشرقي” التي ستلقي الضوء على الأنشطة التاريخية والثقافية والتعليمية والعلمية في منطقتنا، وأشكره على دعوتي لأكون عضوًا فيها إلى جانب شخصيات بارزة مثل سعادة السفير ميخائيل بوغدانوف، والبروفيسور فيتالي نومكين، والسيد ميخائيل بيوتروفسكي المدير العام لمتحف الإرميتاج. وأخيرًا للسيدة ماريا إيفانوفا، منظمة أول مهرجان سينمائي روسي في لبنان ومخرجة أول فيلم لبناني روسي مشترك والمنتج العام للفيلم الوثائقي الذي سنشاهده في هذا الحدث، وكذلك للمنتج سيرجي ماكسيمكين والمخرج ماكسيم جوبوفسكي وفريق العمل اللبناني بأكمله”.
أضاف أبو زيد: “نجتمع اليوم لإحياء مرور 80 عامًا على تبادل العلاقات الديبلوماسية بين بلدينا: لبنان وروسيا. اعترفت موسكو باستقلال لبنان العام 1943 بناءً على طلب خطّي من وزير الخارجية اللبنانية آنذاك، السيد هنري فرعون. فقامت العلاقات بين بيروت وروسيا في العام 1944. تجدر الإشارة إلى أن موسكو استعملت حق النقض “الفيتو” للمرة الأولى في مجلس الأمن لتمنع صدور قرار لا ينص صراحة على انسحاب القوات الأجنبية من لبنان”.
وتابع: “يتقاسم البلدان إرثًا مميزًا يتّسم بالمعاناة والتضحية، والبطولة والشجاعة، والكرامة والفروسية، ودماء الشهداء. لقد تركت الحروب التي عصفت بالشرق على مدى قرون من الزمان أثرًا دائمًا على بلدي، تشهد عليه حكايات الأجيال، ولحظات الشجاعة، ومحطات الكرامة، وصفحات التاريخ، وأضرحة شهدائنا”، لافتاً إلى “أن العلاقة التي تجمع بين لبنان وروسيا قديمة وحميمة، وقد بدأت في عهد القيصر “إيفان الرهيب” عندما قدّمت موسكو مساعدات سخيّة للكنيسة الانطاكية الأرثوذكسية، وفي لبنان أبناء لها وإكليروس ومؤسسات متنوعة. ثم اتسع نطاق المساعدات ليشمل جميع مسيحيي الشرق بلا استثناء. بل إن الشعب الروسي العظيم ضحّى بنخبة من أبنائه لتحرير اللبنانيين من الاحتلال التركي. وتحتضن مقبرة مار متر في الأشرفية رفاة الجنود الروس الذين استشهدوا في بيروت”.
وأردف: “يسجّل التاريخ أنه في العام 1773، وعند انتهاء الحرب الروسية-التركية أنزلت القوات الروسية البحرية فرقة من رجالها في ميناء بيروت الذي كان يُعرف بـ”ميناء القديس جاورجيوس” نسبةً إلى خليج ما جاورجيوس القائمة بيروت على ضفافه. وقد نصبت مدفعية هذه الفرقة قرب مدخل الخليج وسُمّي الموقع “ساحة المدفع” تخليدًا لذكرى شنق كوكبة من أحرار لبنان في هذا الموقع. وفي عام 1839، افتتحت أول قنصلية روسية برئاسة قسطنطين بازيلي، الذي كان دبلوماسيًا متمرّسًا ومستشرقًا باحثًا ترك مدوّنات رائعة عن جولته في المنطقة وحجّه إلى الأماكن المقدسة في فلسطين. وكانت كتاباته في خلفية النشاطات المكثفة التي شهدتها نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لبعثات الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية بحيث تخطّت حدود فلسطين لتشمل لبنان وسوريا عبر إقامة أكثر من 100 مدرسة ومعهدين للتربية ومدرسة مهنية إلى جانب المستشفيات والملاجئ والفنادق وورشات تصليح ودور نشر. ناهيك عن ألوف الأطباء والمهندسين والخبراء الزراعيين والتقنيين الذين تخرّجوا من المعاهد الروسية في زمن الاتحاد السوفياتي وتزوّج كثير منهم من روسيات وأنشأوا علاقات أسريّة بين الشعبين”.
وقال: “يمكن القول إن العلاقات اللبنانية الروسية كانت دائمًا علاقات جيدة وفي نمو وتطوّر دائمين خصوصًا في الآونة الأخيرة. ومن المهم أيضاً الإشارة هنا إلى أن الاهتمام الروسي بأوضاع الشرق الأدنى، راهنًا، إلى كونه امتدادًا لتاريخ عريق، يرتبط ارتباطًا وثيقًا ببعض الحقائق والوقائع والتحديات التي تواجهها المنطقة. لم تكن روسيا يومًا إلا صديقة لبنان. لم تتصرّف في أي مرحلة إلا بدافع الأخوة ومن منطلق الاحترام. لم تتدخّل يومًا في شؤونه الداخلية ولا مارست أي نوع من الضغوط لاستمالته أو التأثير عليه. وما حاولت يومًا تأليب فئة على أخرى أو اللعب على الوتر الطائفي والدخول في زواريب الصراعات الداخلية اللبنانية”.
أضاف: “من نافل القول إن دخول روسيا منذ 9 سنوات على خط الأزمة في سوريا قلب الموازين وبدّل الصورة وغيّر المعادلة. وغني عن القول إن التعاطي الروسي اليوم مع لبنان يحصل من خلفية أن الجغرافيا اللبنانية هي امتداد للجغرافيا السورية وكذلك الواقع والتاريخ والروابط. قد يقول البعض إن الاهتمام الروسي بسوريا يحجب الاهتمام بلبنان وإن انشغال روسيا في الحرب في أوكرانيا في الوقت الراهن يؤدي إلى تراجع التعاطي مع ملفات الشرق الأوسط ومن بينها لبنان. في الواقع هناك ترابط بين الملف اللبناني والسوري استنادًا إلى حضور روسيا القوي في سوريا كحليف وشريك. والحقيقة أن لبنان بحاجة إلى صداقة روسيا ومساعدتها له في تخطّي سلسلة المعوقات والحواجز والعقبات التي ترتفع يومًا بعد يوم أمامه. وأن تتعامل معه كملف قائم في ذاته من دون ربطه بأي ملف آخر. هذا ما تحتّمه خصوصية لبنان وتركيبته الطائفية والاجتماعية والسياسية إضافة إلى معاناته المتصاعدة من جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية والحرب الدائرة على أرض جنوبه منذ 10 أشهر”.
وأكد أبو زيد “أن روسيا مدعوة بدافع الصداقة ومن موقع الأخ الأكبر إلى المبادرة تجاه لبنان وإدراجه في قائمة أولوياتها وفي خانة الدول “الأكثر رعاية”. أولى الاهتمامات هي مساعدة لبنان في ملف النازحين السوريين وتأمين ظروف عودتهم. نحن نعلم أن روسيا هي أول من بادر للمساعدة وقدمت اقتراحات عملية كان يؤمل منها أن تفضي إلى نتائج مقبولة، في حين أن المجتمع الدولي كان يناور ويقامر باستقرار لبنان ونسيجه الاجتماعي وتركيبته الطائفية”.
وقال: “لقد بات ملف النازحين السوريين يشكل عبئًا إن لم نقل خطرًا على لبنان من النواحي المالية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والديموغرافية. لقد أصبح النزوح خطرًا وجوديًا. نحن نرى أن مساهمة روسيا في هذا الملف تكون على 3 مستويات:
- لعب دور الوسيط والضامن بين الحكومتين اللبنانية والسورية في المفاوضات بينهما.
- الإسهام الروسي في دفع العملية السياسية في سوريا قدمًا لأن الحل السياسي للأزمة هو المفتاح لعودة النازحين وإعادة إعمار سوريا وتأمين الأموال والمساعدات الخارجية.
- إطلاق تحرّك روسي باتجاه الدول العربية ولا سيما الخليجية منها لإقامة جسور الثقة وإزالة حواجز الشقاق بين سوريا والدول العربية ما يكرّس الاستقرار ويرسّخ الأمن ويعيد سوريا إلى موقعها الطبيعي على خارطة المنطقة، ما يكفل الشروع في إعادة الإعمار وعودة النازحين تدريجيًا إلى بيوتهم وقراهم ومدنهم.
في الخلاصة، إن إعادة النازحين تستلزم حلاً سياسيًا وتتطلب أموالاً لا يمكن أن تأتي إلا من دول الخليج وخصوصًا السعودية وهذا يقتضي تسوية سياسية لروسيا دور أساسي في التوصل اليها”.
وفي الموضوع اللبناني، قال أبو زيد: “إن التركيز على دور إيجابي روسي مساعد في لبنان، ليس دعوة لروسيا للتدخل في لبنان بمقدار ما هو إعادة تجديد وتأكيد للعلاقة التاريخية بين البلدين، ولما تملكه روسيا من صداقات مع طوائف وأحزاب في لبنان، وهو ما يكرّس مصداقيتها للقيام بدور مساعد في الداخل اللبناني كتهدئة اللعبة واطفاء التوترات والتوصل إلى حلول للأزمات المتعددة بدءًا من رئاسة الجمهورية وصولاً إلى تثبيت الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. وإذا كانت روسيا انسحبت من معادلة النفط والغاز في البحر المتوسط ولا تريد الخوض في هذا المجال الاستثماري، فإنها مدعوة إلى إعادة وضع لبنان على أجندتها الإقليمية في الشرق الأوسط والمبادرة إلى تشجيع استثمارات ومشاريع في لبنان في المجالات التي تخدم العلاقات اللبنانية – الروسية مثل المجال الثقافي والتربوي والتجاري والسياحي. ولا يغيب عن بالنا أن بين لبنان وروسيا قاسمًا مشتركًا هو محاربة الإرهاب وأن للبنان وروسيا عدوًا مشتركًا هو الإرهاب والجريمة المنظمة. لذا ندعو إلى تعزيز التواصل بين الأجهزة الأمنية اللبنانية والأجهزة الروسية والتنسيق والتعاون في ما بينهما لردع ومواجهة أي تهديدات مستقبلية محتملة”.
وتطرّق أبو زيد إلى الوضع المسيحي فقال “لم تكن روسيا يومًا في موقع المحاباة أو المعاداة لأي فريق أو طرف أو جهة أو طائفة في لبنان، فالتوازن هو سمة السياسة الروسية في لبنان والعلاقات قائمة مع كل الطوائف من موقع التفهم والاحترام والابتعاد عن الانحياز. إلا أن روسيا كحامية للإيمان وحاملة للأمانة تقع عليها وفي هذه المرحلة مسؤولية إشعار المسيحيين في لبنان بأنهم موضع رعاية وعناية وبأن موسكو معنية بالوجود المسيحي في لبنان ومستقبله خصوصًا وأن لبنان بعد حروب العراق وسوريا أصبح مركز الثقل الأساسي والوحيد للمسيحيين في المنطقة. فإذا ضعف هذا الوجود وتعرّض للانتكاس والتناقص والتراجع سياسيًا وديموغرافيًا كدور وحضور فإن ذلك يعني انتهاء الوجود المسيحي في الشرق واختفاءه تدريجيًا كما تختفي الساقية في رمال الصحراء. اليوم يواجه لبنان امتحانًا وجوديًا ومفترقًا مصيريًا يتمثل بالهجمة الإسرائيلية الشرسة عليها. وإذا كان النزوح يمثل عبئًا ثقيلاً في الداخل فإن العدوان الإسرائيلي المتمادي يشكل خطرًا داهمًا على وحدته واستقراره واستمراره وهو ما نتطلع إلى روسيا للقيام بدور رادع ومانع لأطماعه التي لم تعد خافية على أحد”.
وختم: “مناسبة كلمتي هي الاحتفال بمرور 80 عامًا على إقامة العلاقات الديبلوماسية بين لبنان وروسيا لكن أرجو منكم أن نتفق جميعًا على أن لقاءنا اليوم هو في توقيت معبّر وواعد في تاريخنا وفي تاريخ الإنسانية والسعي إلى الحرية. خلال السنوات والعقود الماضية عرف العالم تغيرات ذات أبعاد متعاظمة لا زلنا لم نستوعب تداعياتها.
منذ 32 عامًا وقف الرئيس الأميركي جورج بوش في مبنى الكابيتول يلقي خطاب حالة الاتحاد متوجهًا للشعب الأميركي قائلاً: اليوم أعلن لكم سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار أميركا في الحرب الباردة. يومها قال الأميركيون إنها نهاية التاريخ وأن تاريخًا جديدًا بدأ. اليوم تعيد روسيا كتابة التاريخ وتقاوم الهيمنة الأحادية وتجدد الانتصار على النازية وتعيد الاعتبار لسعي الأحرار والشرفاء لبناء عالم أفضل.
وحدهم صنّاع التاريخ من يحق لهم كتابته وهو ما فعلته روسيا بالأمس وهو ما تفعله اليوم. وهو ما يصنعه وطني لبنان الفخور بصداقة روسيا.عاشت روسيا، عاش لبنان”.