…وماذا عن لبنان؟

أعلنت طهران يوم الإثنين الواقع في 20-05-2024 وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية عبد الأميراللهيان إثرحادث تحطّم مروحية كانا على متنها. إعتُبر إبراهيم رئيسي من أهمّ شخصيات جهاز الإكراه الذي صقلته الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها، بعد أن أمضى حياته المهنية في الأجهزة الأمنية وكمُنفّذٍ لأحكام الجهاز القضائي. والكلام عن عدم أهمّية دور رؤساء الجمهورية ضمن النظام الإيراني لا يتّسم بالدقّة، فهُم الذين يُسيطرون على الدولة الإدارية، لكنهم لا يستطيعون إتخاذ أي مبادرة قد تتعارض مع إرادة المُرشد الأعلى، بالتالي، “لا يطعنون في الظهر”. وهذا هو النموذج الذي يُحاول حزب الله تطبيقه في لبنان بالنسبة لصلاحيات رئيس الجمهورية المُقبل.
أما فيما خصَّ مسار السياسة الخارجية الإيرانية مستقبلاً، فهو سيستمرّ في التشدّد سواء تجاه الحرب في غزّة أو بالنسبة للمحادثات الجارية مع واشنطن. ذلك أن المواجهة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل ما زالت في أوجّها. المُهمّ، أنه منذ وفاة رئيسي عملت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على إرسال إشارات تهديد إلى إسرائيل مفادها عدم إنتهازالفرصة لتوجيه ضربة إليها خاصة بعد مصابها الأليم. لكن تدنّي إمكانية حصول مواجهة عسكرية شاملة بين البلدين لا يعود الى فعّالية هذه التهديدات بل إلى تركيز إسرائيل على حرب غزّة، فمهاجمة إيران مباشرة وسط هذه الحرب سيؤدّي حتماً الى دخول حزب الله المعركة وإجبار إسرائيل على القتال على جبهة أخرى. المعادلة واضحة، عدم مهاجمة إيران سيمنع إشعال جبهة إسرائيل الشمالية، وهذا هو دور الردع الفعلي الذي يؤديه حزب الله. إضافة الى قضية الرهائن التي تُشكّل ضغطاً كبيراً على القادة الإسرائيليين، والمظاهرات المُطالبة بإستقالة الحكومة، وعدم التناغم الكلّي بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة بايدن التي أكّدت لها أنها لن تنضم الى أي هجوم ضدّ طهران.
أما من جهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد عُلم مؤخراً أنه جرى تحليلٌ لما حدث في ليلة 13 إلى 14 أبريل/نيسان لإستخلاص العِبر؛ فنوعية الأسلحة المُختلّة وظيفياً ليست السبب الوحيد وراء إحجامها عن خوض مغامرة الحرب الشاملة، إنما قادة إيران أنفسهم الذين صرّحوا مراراً وتكراراً أن هدفهم ليس تسعيرالصراع، لذلك لن يُقدموا على أي هجوم آخر في حال لم تردّ إسرائيل. فالقادة الإيرانيون ليسوا من دعاة النزعة الإنتحارية خاصة عندما يتعلّق الأمر ببلدهم. هم يُدركون أن إسرائيل دولة نووية تتمتع أيضاً بقدرات تقليدية مُتفوّقة، كما يأخذون على محمل الجدّ إمكانية إقدام الولايات المتحدة على ضرب العمق الإيراني مع ما يتبعه من نتائج كارثية. همّهم الأول الحفاظ على النظام وعلى البرنامج النووي، وجلّ ما يحتاجون إليه هو عدو دائم يُبقيهم على قيد الحياة. وها نحن اليوم أمام حرب إستنزاف تخلُق توتراً إقليمياً مُستمرّاً يخدم المطلب الإيراني. بإختصار، سيبقى الصبر الإستراتيجي عنوان المرحلة القادمة والماضي القريب خير مثال على فاعلية هذا القرار. فمُنذ توقيع إيران على خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015 الى يومنا هذا كانت الفكرة الأساسية اللعب على ربح الوقت بإنتظار تكريس دورها كلاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط.
ختاماً، من البديهي أن يعمل جميع المعنيين بأزمة حرب غزّة على خدمة مصالحهم لكن الغائب الدائم هو لبنان، أين مصلحته الوطنية من كل ما يجري حوله؟ إيران تستعمل حزب الله كرادع لضربة قد تطال أراضيها، وأرض الجنوب كمسرح ينجح في التسبّب ببعض التحدّيات لجبهة إسرائيل الشمالية. بالطبع نسمع باستمرار أن هناك إطاراً مُعيناً من الأعمال العدائية الذي يُحاول حزب الله الحفاظ عليه على غرار القادة في إيران. لكن ماذا عن مُعاناة الجنوب حيث تُظهر إحصاءات الخسائر البشرية والمادية حتى اليوم أرقاماً مؤلمة، والمُبرّرات التي يُقدمها قادة حزب الله لا تُخفّف من وقعها ولا تُقنع إلا أصحابها.
عندما سُئل رئيس الحكومة الإسرائيلية عن السنة الدراسية التي تبدأ في الأول من أيلول/سبتمبر، قال إنها ليست موعداً مُقدساً ويمكن أن تتأخر. ما يعني أن الوضع الحالي سيبقى على ما هو عليه أي ما دون عتبة المواجهة، إلى أن تهدأ الحرب في غزّة وهو أمر مُتوقع خلال أشهر معدودة. عندها، سيَستطيع حزب الله التخلّي عن المواجهة مع إسرائيل ويتمكّن السكّان على جانبي الحدود من العودة الى ديارهم. لكن هل من المُحتمل الوصول الى هذا الترتيب دون حلّ دبلوماسي؟ المُهمّ أنه في حال حصوله سيجلُب الأمن لبضع سنوات، لكنه لن يلغي المواجهة المستقبلية بين إسرائيل وإيران وبالتالي حزب الله. لأنه كما سبق وأشرنا إيران وإسرائيل ليستا مستعدتين للقتال في الوقت الحاضر، لكن استمرار التوتّر بينهما الذي سيؤدّي الى صراع مُستقبلي لا بُدّ أن ينتُج عنه سباق لإمتلاك قدرات هجومية ودفاعية أكثر تقدّماً. وأخطر ما في الامر أن طهران قد تضاعف من جهودها لتأمين الأسلحة النووية، لِعلمها أنها لن تكون قادرة على مواكبة سباق التسلّح التقليدي. إضافة الى أن كلا البلدين سيتطلّع إلى اكتساب ميزة جغرافية، فالضربات الإيرانية والإسرائيلية خلال الجولة الأخيرة من الهجمات، لم تعتمد على القُدرات التكنولوجية فحسب، بل أيضًا على مواقع إطلاقها. ما معناه أن طهران التي طلبت من حزب الله ممارسة الصبر الإستراتيجي منذ إندلاع حرب غزّة، ستعود عن قرارها هذا في المرة القادمة. بانتظار ذلك قَدَر لبنان أن يبقى أهم ّ خط دفاع عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الدكتورة جوسلين البستاني