محمد حمية
بِلا مقدمات وفي توقيتٍ مريب، طفت على سطح المشهد الداخلي موجة دبلوماسية – إعلامية أميركية تروّج لبدء مفاوضات بين لبنان و”إسرائيل” على ترسيم الحدود البرية علماً أن الحدود مرسمة دولياً والمطلوب تثبيت هذه الحدود والانسحاب الإسرائيلي الكامل.
قد يكون ظاهر الأمر إيجابياً لجهة بدء مسار الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس ثم تطبيق القرار الدولي 1701، لكن القسم المخفي والباطني ينطوي على نيات مبيتة بعكس ما حاول ديوان رئيس حكومة الاحتلال بنيمين نتانياهو و”مرجانا الأميركية” الإيحاء به.
لعلّ إبراز توقيت فتح ملف الحدود وصيغة الإعلان عن التفاوض يكشفان الأهداف الخفية:
*بعد الحرب الأخيرة التي أنتجت موازين قوى جديدة في لبنان والمنطقة وحقبة دولية جديدة مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، ما تعتبرها “تل أبيب” التوقيت الذهبي لفرض مشاريع السلام والتطبيع على لبنان ودول المنطقة.
*التطورات الدراماتيكية على الساحة السورية وإيغال الخنجر الإسرائيلي في الجسد الجغرافي والاجتماعي والاقتصادي السوري والحديث عن نظام جديد في سوريا عنوانه الفدرالية تحت مسمى اللامركزية يشرع أسوار الشام أمام تطبيع غير معلن بدأت معالمه تظهر من خلال محاولة حكومة نتانياهو إخضاع دروز جنوب سوريا لوصايتها.
*حديث مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، منذ أسبوع عن “إمكانية انضمام كل من سوريا ولبنان للحاق بقطار التطبيع”.
*كلام مستشار الرئيس الأميركي مسعد بولس، منذ أيام عن أن السلام بين لبنان وإسرائيل وشيك.
*دعوة رئيس لجنة الأمن القومي في الكنيست الإسرائيلي بوعاز بيسموت، إلى فرض سيطرة إسرائيلية كاملة على سوريا.
ووفق مصادر مطلعة لـ”الجمهورية” فإن دوائر القرار الأميركي – الإسرائيلي وضعوا خطة متوسطة الأمد لفرض مشروع السلام على لبنان “عالرايق” أي العمل قدر الإمكان لعدم جرّ لبنان الى حرب داخلية، ولذلك يجري ربط إعادة الإعمار ومؤتمرات الدعم والاستثمارات الخارجية وحتى ملف استخراج النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية، بموضوع إيجاد الحكومة اللبنانية حلاً لسلاح حزب الله وكل المنظمات الفلسطينية وتوطين الفلسطينيين في لبنان وشطب حق العودة، إضافة الى شروط اقتصادية – نفطية ترتبط بمشاريع الغاز والنفط الدولية المستقبلية في الحوض الأبيض للبحر المتوسط إنطلاقاً من مصر وغزة مروراً بلبنان وسوريا وصولاً الى تركيا وأوروبا، بخاصة أن إسقاط النظام السوري السابق وتدمير غزة وتقليص النفوذ الروسي في المتوسط عوامل تعطي قوة دفع لهذا المشروع.
لكن اللافت أن موقع “أكسيوس” الأميركي تحدث عن موافقة الدولة اللبنانية والحكومة الاسرائيلية على بدء المفاوضات على ملف الحدود وفق الصيغة الواردة والمصطلحات المستخدمة للمرة الأولى في المحادثات أو المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية الغير مباشرة من دون أي موقف لبناني رسمي واضح! كمثل الحديث عن ثلاثة فرق دبلوماسية وليس تقنية أو فنية!، ما يطرح السؤال التالي: ما الضرورة لفرق دبلوماسية طالما أن المفاوضات لا تتعدى الإطار التقني المتعلق باستكمال الانسحاب الإسرائيلي من كامل الأراضي اللبنانية وفق القرارات الدولية؟.
الإجابة تفضح السبب الخفي للضوء الأخضر الأميركي للجيش الاحتلال للبقاء في النقاط الخمس وفق كلام وزير الحرب الإسرائيلي عشية نهاية التمديد الأول لاتفاق الهدنة، وهو جرّ لبنان الى التفاوض على ملفات أمنية وسياسية واقتصادية تحت عنوان تحقيق المصالح الأمنية الإسرائيلية.
ويقول مطلعون على الاستراتيجية الأميركية للمنطقة، إن الولايات المتحدة تريد إقفال ملف الحروب الإسرائيلية – العربية والنزاعات والصراعات في الشرق الأوسط لا سيما بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا وغزة، وذلك من خلال اتفاقيات سلام معها، بالتوازي مع قناعة الحكومة الإسرائيلية بأنها لن تستطع إعادة المستوطنين واستعادة الأمن والحياة الاقتصادية الطبيعية الى مناطق الشمال من دون حل شامل ونهائي مع لبنان لا سيما لقضية سلاح حزب الله الذي لا يزال يشكل تهديداً لها، وذلك من خلال توقيع اتفاق سلام مع الدولة اللبنانية يُشكل مظلة أمان مستدام ليس للشمال فحسب بل للكيان برمته.
وقد بدا إطلاق الاحتلال للأسرى اللبنانيين الخمسة كبادرة حسن نية تجاه رئيس الجمهورية وفق ما قال ديوان نتانياهو، لكن الحقيقة أن إسرائيل تمنح لبنان من كيسه لا من كيسها، فلا يمكن مقايضة أسرى مدنيين تم اختطافهم خلال فترة الهدنة وليس الحرب ولا يوجد مقابلهم أسرى إسرائيليين لدى لبنان لكي يبرر المفاوضات.. فقد أراد الأميركيون تعزيز الموقع التفاوضي للحكومة اللبنانية أمام حزب الله بأن خيار الدبلوماسية يتقدم على خيار المقاومة، لكن لكي يأخذوا من الحكومة ما هو أهم وأدسم باليد الأخرى.
من المعروف أن ملف الحدود البرية ينقسم الى ثلاثة أقسام:
*الأول النقاط الخمس التي احتلها الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة ويفترض انسحابه منها من دون أية مفاوضات أو شروط مقابلة وذلك وفقاً للقرار 1701 وتفاهم وقف إطلاق النار.
*الثاني الخط الأزرق أو خط التحرير العام 2000 أي المناطق التي احتلها الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب تموز 2006 ومنها الجزء اللبناني من الغجر والنقاط الـ 13 المتنازع عليها، وهذا الجزء أيضاً يفترض بإسرائيل الانسحاب منها من دون مقابل إنفاذاً للقرار 1701 واتفاق الانسحاب في العام 2000 .
*الثالث تثبيت الحدود الدولية ومن ضمنها مزارع شبعا التي أوجب القرار 1701 انسحاب إسرائيل منها ووضعها في عهدة الأمم المتحدة حتى إيجاد تسوية مع سوريا.
إذاً ما الهدف من المفاوضات إذا كانت القرارات الدولية تلزم إسرائيل بالانسحاب ودور الولايات المتحدة ولجنة الإشراف التطبيق العملي والميداني خصوصاً أن حزب الله التزم بالاتفاق وفق تقارير الجيش اللبناني ولجنة الاشراف؟
غير أن الحكومة الاسرائيلية تخطط وفق مصادر مطلعة لربط التفاوض على الملفات الثلاثة، لتوسيع النطاق الجغرافي لاحتلالها وتعزيز موقعها التفاوضي لفرض اتفاقية سلام على لبنان بذريعة “المصالح الأمنية”، بموازاة مزيد من الحصار الأمني والاستهداف العسكري والتطويق السياسي والدبلوماسي والمالي لحزب الله وللمقاومة لإضعاف قدرته على تعطيل مسار اتفاق السلام.
فهل يقع لبنان الرسمي في هذا الفخ القاتل أم يتمسك بانتزاع حقوقه من دون تقديم شروط للإحتلال ويتحصن بوحدة داخلية شبه جامعة بعناوينها الثلاثة: رفض التطبيع والسلام وفق الشروط الاسرائيلية لا سيما التوطين، اتفاقية الهدنة لعام 1949، والموقف العربي المتمثل بمبادرة السلام العربية في بيروت العام 2002 وحلّ الدولتين؟.