ليلة البربارة… والوجوه المستعارَة

ليلة البربارة… والوجوه المستعارَة

” هاشلة بربارة

والقمح بالكوارة،  

لولا الشيخ ما جينا

حلّي مصرِّك وعطينا…”

ولا تجدُ العجوز مفرًّا من حلّ المصرّ، فتظهر “خمسات القروش” و “عشراتها”، وتتناولها العين قبل اليد، وتضحك الوجوه البريئة خلف الوجوه المستعارة، ويطول المشوار.

فالقريةُ في ” هرجٍ ومرج “: ألأطفال والفتيان يجوبون البيوت فرادى وجماعات، فوجٌ يدخل البيت وآخر يخرج، والوجوه طافحة بالبُشر، والابتسامة حمامة الثغور. والجدّة قابعة في زاوية الدّار، ترسلُ نظرَها متفرّسةً في الداخلين، علّها تعرف أحدهم، ولكن أنّى لها أن تعرف، فالأقنعة تخفي كلّ شيء. وعبثًا كانت تحاول أن تعرف قريبًا أو نسيبًا، إلاّ من خلال انحناءةٍ بسيطة، تحمل بين طيّاتها دلائل الاحترام، والظّفر بخمسة قروش، زيادةً عن الآخرين، فيبلغ المراد، ويروح يتباهى أمام رفاقه بما حقّقه من انتصار، ولربّما عُدَّ انتصارًا، في ذلك الوقت، انتزاعُ قرشٍ من الجدّة التي خبرَت خشونة الأيّام، فخبّأت القرش الأبيض لليوم الأسود، بعيدًا عن هموم المصارف ودهاليز أقاصيصها.

وبين الحين والآخر، تستوي الجدّة في مقعدها، وتسوّي شعرها متفاخرةً بدورها، فهي أمينة الصندوق في تلك الليلة، بيدها الحلّ والربط، وطوبى لمن ترضى عنه.


وتدوم المسألة ساعتين أو ثلاثًا، ينتهي بعدها دور الصّغار، فيأوون إلى أسرّتهم، وهم فخورون بما قاموا به، فقد استطاعوا إخفاء أنفسهم عن عيون أهل الضّيعة – أو على الأقلّ اقتنعوا بذلك – وظفروا بعدد من القروش يؤمّن لهم سهمًا في بورصة بدلة العيد، ووفوا نذورهم لكنيسة الضيعة، بتقديم جزء ممّا جمعوه تلك الليلة.  

ومع مجيء الكبار تتبدّل الأدوار، فالقضيّة قضيّة جماعات، والويل لمن تدور عليه الدائرة، فيأخذ دورًا وضيعًا، إذ يبقى لفترة حديث الضيعة وشغلها الشاغل. وتتعدّد الهيئات والمظاهر، ويزدهر الفحم والزيت، وتكثر التجمّعات، فهذه جماعة يتقدّمها العريس والعروس وحشد من المهنّئين، وتلك جماعة يتقدّمها الكاهن، وقد تزيّا أفرادها بما  لا يخطر على بال. ومن البعيد، تتهادى أصوات ” طبلٍ وزمر “، وتقترب الجوقة شيئًا فشيئًا، ويتحوّل البيت الوادع االهادىء إلى ساحةٍ تصخب فيها الأصوات وتتعالى، وتقترب عيون الصغار من فتحات مفاتيح الأبواب المغلقة، تحاول أن ترصد ما يجري؛ وتكون المناسبة فرصة للّقاء، فيجلس الأحبّاء جنبًا إلى جنب، دون أن يدري أحد بأمرهم، ثمّ يتبادلون الأماكن مخافة ان يثيروا الشكّ في نفوس الفضوليّن، وما أكثرَهم في كلّ زمان ومكان!

وتتكرّر الصّورة في كلّ بيت، وتأبى ربّة الدّار إلاّ أن يتناول الحاضرون بركة العيد، وإلاّ لمن أمضت ساعاتٍ من النهار وهي تحضّر “الزلابية” و”المعكرون” و “القمح” الممزوج بالسكّر والمطيَّب بماء الزّهر والمزدان بالجوز واللّوز والرمّان!؟

وتنقضي تلك الليلة وتبقى حيّةً في البال، مرسومة على الجدران، مزروعة في زواريب القرية؛ ويبقى فلان وهيئته المضحكة مثار سخرية القرويين لفترة من الوقت،


وتبقى رصانة ذاك محطّ إعجاب، ويبقى الجميع موضوعًا شيّقًا للتداوُل، تنقضي معه الليالي ويموت الضّجر.

ووسط ذكريات ” ليلة البربارة” وأقنعتِها، تبقى أنتَ يا وطني، وقد ألبسوكَ قناعًا ما خُلِقتِ له، فخنقوا فيكَ صوتَ البراءة، وأسكتوا في حنجرتكَ زغردة الفرح، وشوّهوا أيّامك ولياليك، فهلاّ  خلعتَ أقنِعَتَهُم، وأقنَعْتَهُم بأنّ الحياة جميلةٌ ببسمتها، جميةٌ ببراءتِها وأمانها والصّفاء؟!

وبعد،

هو الحنين إلى الماضي يدفعنا إلى العودةِ إليه.

هو الأمسُ الوادعُ الآمنُ يحملنا على أجنحة الخيال، نحلّق معها إلى مطارحَ وذكريات هيهات أن تعود.

     المحامي

جورج ميشال أبو خليل