جوزف القصيفي* ـ “الجمهورية”
ثمة ما هو أخطر من الحرب الميدانية. إنها الحرب النفسية التي تستبق كل حرب وتواكبها وتليها. ومادتها شائعة كاذبة، أو سيناريو شديد الحبكة يورد سردية الغاية منها إلقاء الرعب والشكوك في قلوب الناس واذهانها. وهذه الحرب أشد فتكا من الصواريخ الخارقة والقذائف الحارقة،وتوهن النفوس قبل العزائم. ويصعب حصر الأمثلة عن الأثر الذي خلفته الحروب النفسية في مسار المعارك،وأن بعضها كان عاملا رئيسا في حسمها قبل بدايتها أو على الاقل في تسريع خواتيمها. وفي التاريخ الحديث وتحديدا في الحرب الكونية الثانية إستطاع أدولف هتلر إجادة إستخدام هذا الأسلوب الذي لم يقل فتكا عن آلته الحربية، من خلال الدور الذي قام به باول جوزف غوبلز على رأس” وزارة الرايخ للتنوير العام والاعلام” حيث قاد فريقا من الاختصاصيين لبث الدعاية النازية في ألمانيا وسائر دول أوروبا، خصوصا تلك التي تضم شعوبا جرمانية انطلاقا من القواعد التي أعلن عنها هتلر في كتابه” هذا كفاحي”،والذي يقوم على فلسفة القوة التي تأثر فيها بنيتشه، وتفوق العرق آلاري وبناء عالم جديد يتطابق مع المعايير الواردة في كتابه. وانطلق غوبلز في عمله من ثابتتي الكذب والتكرار، فمن اقواله”بالغ في كذبك،فكلما كبرت الكذبة سهل تصديقها”،و” ليست مهمة الدعاية أن تكون جيدة،بل أن تحقق النجاح”،و” الدعاية الناجحة يجب أن تحتوي على نقاط قليلة وتعتمد التكرار”و”كلما كبرت الكذبة سهل تصديقها.” على أن غوبلز لم يكذب على نفسه عندما حلت الهزيمة بملهمه ” الفوهرر” الذي عينه قبيل انتحاره مع صديقته ايفا براون في الثلاثين من نيسان ١٩٤٥ خليفة له،اي مستشار الرايخ،فوضع حدا لحياته في اليوم التالي مع زوجته واولاده الستة ملتحقا بالشخص الذي أخلص له حتى النزع الاخير. لم يكن كمحمد سعيد الصحاف الذي ” اتحفنا” ب” علوجه” وولى الادبار إلى خارج العراق غير آبه بسقوط بغداد ومصير رئيسه صدام حسين. كان غوبلز صاحب مدرسة في التضليل، والمراوغة، يلين كملامس الافاعي ليتمكن من نفث سمومه،ويعرف أن سلاحه هذا أشد فتكا من ازيز الطائرات وهدير المدافع، ومكر الغواصات. أتقن فن الكذب ووظفه في خدمة آلة الموت النازية. ولغوبلز اتباع ومعجبون في العالم كافة، ومن تلامذته النجباء يونس البحري الذي كان يخاطب العرب من إذاعة برلين:” حي العرب”، وقد ادخل في روع الكثيرين منهم أن هتلر هو صديقهم ويسعى إلى تحريرهم، ورفاههم. وقلة منهم كانت تعلم في اي درجة من “الرقي” صنفهم النازيون. واليوم إسرائيل تعتمد أسلوب الحرب النفسية بكثافة وإتقان وحرفية من خلال بث الشائعات، والايحاء بتحليلات على العديد من وكالات الانباء العالمية،والمنصات والفضائيات الدولية والصحف الغربية تتضمن سيناريوهات صادمة وخطيرة، عدا عن التحذيرات التي ترسلها إلى لبنان بمختلف الوسائل وكانت قد اتبعت الأسلوب نفسه من قبل،ومنها ما كانت تتوخى إلقاء الهلع في النفوس، وترمي إلى إيقاع الفتنة بين اللبنانيين،ومنها ما كانت حقيقية مهدت لعمليات قصف وحشية قضى جراؤها مئات،بل آلاف الابرياء،وذلك من دون إعطاء اي دليل على ذنب اقترفه هؤلاء سوى النزعة الاجرامية الجارفة التي تتحكم بقادة الكيان الصهيوني الذين يريدون لبنان أرضا محروقة ظنا منهم أن هذه السياسة تؤدي فعلا إلى أضعاف ” حزب الله” إلى الحدود الدنيا بما يسهل عملية استئصاله. إن الاخبار المتناقضة التي تصدر عن جهة واحدة حول موضوع واحد، لا يعني بالضرورة ارتباكا أو عدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي واقعي وما هو كاذب وافتراضي .بل قد تكون نتعمدة لارباك آلاخرين وايقاعهم في الحيرة والرعب والتردد ،مما يشل حركتهم وقدرتهم على التفكير. وقد استطاعت إسرائيل اختراق حسابات العديد من اللبنانيين،وبعث الرسائل اليهم، وامرار المعلومات الكاذبة بغرض احداث البلبلة في صفوفهم،قبل انكشاف زيف ما تسوق . وأن لا سبيل إلى تجاوز تأثير هذه الحرب النفسية الاسرائيلية إلا بحرب مضادة تماثلها من حيث الفاعلية والذكاء،وأحيانا الخبث على قاعدة”Á MALIN UN MALIN ET DEMI”، ولكن الامكانات غير متوافرة على المستوى الرسمي، ولا يمكن تقدير حجم قوتها لدى حزب الله، ولا اي قوة أخرى. وما نشهده من رصد ومتابعة وردود في مواجهة الآلة الدعائية السياسية والحربية في الدولة العبرية ،لا يعدو كونه مجهودات فردية أو جماعية محدودة الامكانات على الرغم من بعض النتائج الجيدة التي توصلت اليها ،والتي لا يمكن أن تحدث تكافؤأ أو توازنا مع هذه الدولة التي تيسرت لها كل اسباب ” التكنولوجيا” المتقدمة.وفي اي حال ،فإنه من المؤسف أن نشهد في لبنان ” طوفانا” من نوع آخر ،هو طوفان ال” FAKE NEWS”اي الاخبار المغلوطة التي تخلخل قواعد الأمن الامني،والامن الاجتماعي، والامن الحياتي، وتبلبل افكار مشغلي وسائط التواصل الاجتماعي بما يؤدي إلى العبث بالسلم الاهلي، وارعاب المواطنين، وقد يكون وراء هذا الطوفان غير المسبوق جهات خارجية .وقد يكون الدافع إلى ذلك سياسيا محليا، أو انتقاميا شخصيا، أو على سبيل المزاح السمج. وان مطلقي الشائعات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد احيانا الخداع القاتل يمارسون ” خداعهم” المريب من دون رادع أو وازع، في ظل العجز عن اخضاعهم لقواعد الانضباط،لعدم وجود قانون ينظم مواقع التواصل الاجتماعي- اقله في لبنان- واي مساءلة أو ملاحقة قانونية لهم تعود إلى استنسابية القضاء، واجتهاده في تقدير حجم المخالفة وخطورتها. فيما تخضع المواقع الالكترونية موقتا لقانون المطبوعات. إن رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل كان يقول: “إن خطر الاعلام يوازي القنبلة الذرية” في دلالة على قدرته التدميرية اذا لم يوظف في الاتجاه الذي يهدم الحقيقة. اما الأديب الكبير سعيد تقي الدين فكان يقول:”اذا اردت ان تغتال إنسانا ،أطلق عليه شائعة.” ومن بين العرب الذين برعوا في الحرب النفسية ضد خصوم الرئيس جمال عبد الناصر هناك المذيع في” صوت العرب أحمد سعيد “الذي كان قادرا على تأليب الجماهير على قياداتها، وتوهين قادة الرأي والصحافيين المعارضين ونبذهم في محيطهم واغداق التوصيفات المسيئة عليهم ،وقد اصاب نجاحا حيث اخفقت المخابرات . وتجدر الإشارة إلى أن حب الشعوب العربية لناصر ووقع سحره عليها، هو ما عزز فاعلية سعيد وحملها على تصديق مبالغاته، ومجاراته في ما كان يبث. وهذا المذيع نفسه أصبح هدفا لنكات الجماهير التي اوهمها بهزيمة إسرائيل في الخامس من حزيران ١٩٦٧،فيما كانت النتيجة معاكسة تماما ومذلة. خلاصة القول ليس هناك لقاح جاهز وفاعل ضد ” الحرب النفسية” بصيغتها ” الغوبلزية” او صيغتها التي تلت مرحلته، والتي شكلت ” التكنولوجيا” عاملا داعما لها. اللقاح المتاح هو التحصن بالوعي والمنطق واعتماد التحليل الموضوعي لكل ما يبث في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، للوصول إلى الخلاصات التي تجنب الوقوع في الخطيئة والمحظور.
ـ مقال نشرته جريدة الجمهورية صباح اليوم
*نقيب محرري الصحافة اللبنانية