سفينة نوح!

عام بالتمام والكمال على “طوفان الأقصى” الذي لم يغرق غزة والشعب الفلسطيني فحسب، بل لطمت أمواجه لبنان والجمهورية الاسلامية في إيران وربما طالت مناطق أخرى من الاقليم، فالجنون الاسرائيلي لا حدود له وردود الوحش الصهيوني تجاوزت كل معايير الأخلاق والانسانية.

واستناداً الى الروايات المتناقلة والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بجميع الأديان السماوية، فإن النبي نوح أراد إنقاذ شعبه من الطوفان العظيم الذي تسبب في تدمير الحضارة البشرية كعقاب إلهي للبشر على فسادهم وسفكهم للدماء، فبنى “السفينة” التي ركبها أزواج من كل أنواع الكائنات الحية الموجودة على الأرض في ذلك الوقت، وعندما أمطرت السماء لفترة أربعين يوماً متتالية غرقت الأرض بالمياه الطوفانية باستثناء الذين كانوا على متن سفينة النبي نوح، الذي وبعدما جفت الأرض أقام مذبحاً لشكر الله وتوحيده.

غير أن “طوفان الأقصى” لم يترك مجالاً لأحد لبناء “سفينة نوح”، فـ”طوفان” المجرم بنيامين نتنياهو لم يغرق “أرض” غزة، بل حرقها عن بكرة أبيها وسفك دماء أكثر من 50 ألف فلسطيني بريء وهجّر حوالي مليون آخرين، واستمر هذا الطوفان عاماً كاملاً حتى تاريخ كتابة هذه السطور، من دون أن يتمكن من بقي من قادة “حماس” من إيجاد السفينة التي يمكنهم ركوبها لكي ينقذوا من تبقى معهم من شعب غزة.

ثم حدث ما كان كثيرون يتوقعونه، أن تعلو مياه الطوفان لتغمر لبنان، وها هو البلد منذ العشرين من أيلول الماضي يغرق بدماء أبنائه من جنوبه إلى بقاعه إلى وسطه وليس في الأفق ما يشير إلى احتمال أن تجف مياه الطوفان الاسرائيلي والأخطر من ذلك أن لا “سفينة نوح” موجودة لا في الأفق ولا في نية قادته ونفوسهم.

المشكلة في طوفان لبنان أنه لم يتأتَّ نتيجة جنون صهيوني، بل كان قد بدأ مع جنون فريق من أبنائه وتحديداً من أبناء الطائفة المارونية الكريمة الذي وعد من كان على رأس السلطة بدخول لبنان إلى جهنم، ومن ثم تعطيل كل مقومات الادارة العامة من التشكيلات القضائية إلى التعيينات تحت حجة “الحصة” وصولاً إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية وإدخال البلاد في فراغ لا يمكن القول إن أحداً مسؤول عنه باستثناء قادة الطائفة الكريمة وزعمائها، فالمشكلة عندهم وقرار حلّها بين أيديهم.

فالرئيس السابق ميشال عون وتحت عنوان “أنا أو لا أحد” كان يتصرف منذ ما قبل توليه الرئاسة في العام 2016 على هذا الأساس وهو يتابع هذا الطريق تأميناً لمستقبل صهره النائب جبران باسيل رئيس “التيار الوطني الحر”. وتحت هذا العنوان، يرفض رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية الذي رشّحه الثنائي الشيعي التراجع عن هذا الترشيح على قاعدة “ليش مش أنا”؟ أما رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي ذاق طعم الترشيح للرئاسة من فريق الرابع عشر من آذار عند نهاية ولاية الرئيس السابق اميل لحود في العام 2007، فهو يريد أن يكون صانعاً للرئيس في المرحلة الحالية على الأقل علّ الأيام “تتغيّر” وتتعدل موازين القوى فيعود مرشحاً قوياً عندها.

ويبدو أن “الطوفان” قد أغرق الانتخابات الرئاسية إلى حين، فعلى الرغم من اللقاء الثلاثي الذي انعقد في عين التينة مقر الرئاسة الثانية وضم الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي والزعيم وليد جنبلاط بهدف تحريك مياه الرئاسة الراكدة، إلا أن الواضح كان أن اللقاء والبيان الذي صدرعنه لم يشكلا طوق النجاة المأمول، ذلك أن “الموارنة” غابوا عنه ثم انتقدوه ولم يروا فيه “طوق نجاة” أو “سفينة نوح” مع أن مضمونه دعوة صريحة وصادقة الى التلاقي لاخراج لبنان من “عقم” الفراغ الرئاسي في ظل الأوضاع الحربية الخطيرة التي يمر بها.

وفي الذكرى الأولى لـ “طوفان الأقصى”، يبدو أن مفاعيله مستمرة والحرب التي أنتجها وانتقلت إلى لبنان مستمرة إلى أجل غير مسمى، والطوفان في لبنان أسفر لغاية اليوم عن 2060 قتيلاً وأكثر من 9800 جريح ناهيك عن الدمار الهائل الذي أصاب بلدات الجنوب والبقاع وقراهما ويوشك أن يحوّل الضاحية الجنوبية لبيروت إلى ما يشبه شمال قطاع غزة، ولا تلوح في الأفق ملامح حل قريب أو وقف لاطلاق النار، والسفينة التي يركبها الشعب اللبناني ستغرق إن لم تكن قد غرقت فعلاً.

صلاح تقي الدين ـ لبنان الكبير