ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد قراءة الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: “سمعنا اليوم مقطعا من إنجيل مرقس، يدعونا فيه الرّبّ يسوع إلى اتّباعه، كما يحذّرنا من مغبّة الخجل منه ومن تعاليمه في هذا العالم الخاطئ. يقع هذا المقطع في الإصحاح الثّامن من إنجيل مرقس، الّذي يبدأ بتكثير الخبز والسّمك وإطعام الأربعة آلاف الّذين كانوا يتبعون الرّبّ، كما يشير إلى عدم قدرة التّلاميذ على فهمه ولا قبوله، ليصل إلى دعوة الرّبّ للجموع والتّلاميذ إلى اتّباعه. يلفتنا أنّ الرّبّ طلب من تلاميذه أوّلا إطعام الجموع، لكنّهم لم يقدروا أن ينفّذوا طلبه (8: 14). بعدها، لم يستطع التّلاميذ فهم تلميحاته حول تعليم الفرّيسيّين والهيرودسيّين (8: 1521). لم يقتصر الأمر على عدم فهمهم تعاليمه، لكنّهم لم يقبلوا أيضا الصّورة الّتي صوّرها عن نفسه، رغم شفائه الأعمى أمامهم (8: 2233).”
أضاف: “الأمر المتوقّع من التّلاميذ أن يفهموا تعاليم الرّبّ لأنّهم «من الدّاخل»، أي من أتباعه، وقد أعطي لهم أن يعرفوا سرّ ملكوت الله (مر4: 11)، في مقابل «الّذين هم من الخارج»، الّذين أعطاهم تعليمه بالأمثال «لكي ينظروا نظرا ولا يروا ويسمعوا سماعا ولا يفهموا» (4: 12). فشل التّلاميذ، مرارا وتكرارا، في فهم تعاليم الرّبّ ومعرفته على حقيقته، لذلك كان الرّبّ يسوع قاسيا معهم، واضعا إيّاهم في خانة الّذين هم من الخارج قائلا: «ألكم أعين ولا تبصرون ولكم آذان ولا تسمعون ولا تذكرون؟» (8: 18)، مؤنّبا بطرس قائلا له: «إذهب عنّي يا شيطان لأنّك لا تهتمّ بما لله لكن بما للناس» (8: 33). هذا يعني أنّ كلّ تلميذ تابع للرّبّ يسوع لا يكون تلميذا حقيقيّا له ما لم يقبله كما هو، أي كإبن الإنسان الّذي ينبغي أن يتألّم ويرفض من الشّيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل، وبعد ثلاثة أيّام يقوم (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 3334)، بل يصبح من «الّذين هم من الخارج» له عينان ولا يبصر وله أذنان ولا يسمع”.
وتابع: “الأمر لا يقتصر على فهم تعاليم الرّبّ يسوع وقبوله كما أعلن هو عن نفسه، لأنّ المطلوب هو اتباع الرّبّ، أي السّير في الطّريق الّذي سلكه هو، طريق الآلام والصّلب وصولا إلى القيامة. لهذا قال الرّبّ: «إن أراد أحد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني» (لو9: 23). إنّ عيش الصليب يكون في إنكار الذات وتخلّي المؤمن عن كلّ ما يربطه بهذا العالم الماديّ ليرتفع نحو السماويات. حمل الصليب يكون في المحبة المضحّية، والصبر على التجارب، واحتمال الشدائد ليس قهرا للنفس بل رجاء بمستقبل مشرق بنور القيامة البهيّ. ليس هناك سبيل للسّير على خطى الرّبّ سوى المحبّة المصلوبة من أجل الجميع من دون استثناء. هذا الأمر لا يمكن أن يحقّقه الإنسان في الخفاء، أي بعيدا عن نظر النّاس الّذين حوله، بل عليه أن يظهره أمام الملء، وألّا يستحي ممّا قد يقوله النّاس عليه «لأنّ من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ يستحي به ابن البشر متى أتى في مجد أبيه» كما يقول الربّ يسوع”.
وقال: “التعبير عن المحبّة لا يكون بالكلام لأنّ المحبّة لا تتحقّق إلاّ بالأفعال. احترام الحياة، العطاء، المسامحة والتعاطف، قبول الآخر كما هو، عدم إدانته أو ظلمه أو قتله، عدم شنّ الحروب وإبادة البشر، كلّها أفعال محبّة. بذل الذات من أجل خير الآخر فعل محبّة. في هذا العالم يسعى الإنسان إلى تحقيق ذاته لا إلى نكرانها، واتّباع الرّبّ كما أوصانا يشكّل فعلا نافرا أمام عيون «هذا الجيل الفاسق الخاطئ» (8: 38). إلّا أنّه لا مفرّ من ذلك ولا مساومة عليه، وإلّا كانت العواقب وخيمة لأنّ من يستحي بالرّبّ وبكلامه سوف يستحي به ابن الإنسان متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة القديسين (8: 38).هل من ينكر نفسه في أيامنا من أجل الآخرين؟ وهل من محبّته بلا حدود كما علّمنا الربّ؟ أم أن عيون معظم الناس شاخصة إلى الأنا، إلى المصلحة، إلى إرضاء الغرور وإشباع الرغبات؟ «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه» كما سمعنا في الإنجيل؟ ألم يطلب منّا أن نترك كلّ شيء ونتبعه؟ وهو الذي صلب ومات عنّا، لن يتغافل عن آلامنا وحاجاتنا، بل يحتضننا برحمته ويذيقنا حلاوة ملكوته”.
وختم: “دعوتنا اليوم، في هذا الأحد الّذي يلي عيد رفع الصّليب الكريم المحيي، أن نحمل صليب المحبّة ونتبع الرّبّ بلا خجل أو تململ. كثيرون قد لا يقبلون المحبّة خوفا من أن تكون زائفة، وما عادوا يثقون بمحبّة أحد من هذا العالم، لأنّ أساسها المصالح الشّخصيّة. عملنا وواجبنا أن ننشر المحبّة الحقيقيّة الّتي أساسها المسيح، لكي يصبح العالم الخاطئ الفاسق فردوسا أرضيّا. لهذا، «أحبّوا بعضكم بعضا من صميم القلب» (1بط1: 22)، أحبّوا حتّى النّهاية، وابذلوا نفوسكم من أجل محبّة الآخر كائنا من كان، لأنّ المسيح هكذا يرتضي”.