“التفلّت من الإلتزام بالقرار السياسي .. والتكوكب في تكتل داخل التكتل النيابي على قاعدة التضامن الدائم في السراء والضراء”

ميشال ن. أبو نجم


كل الأنظار تبقى موجهة إلى التيار الوطني الحر… مقالات وتسريبات في قصف شبه يومي. مواقع إلكترونية واضحة التصويب، والتمويل، وكأن لا أحزابَ أخرى في لبنان تنشط في السياسة أو لديها خلافاتها وديناميكياتها الداخلية. لا بل بالأحرى، أنَّ هذا المنطلق لواقع الإعلام الموجّه حصراً على “التيار”، يمكن من خلاله قراءة الكثير من الدوافع والخلفيات لما حصل من الرد على إجراء داخلي طال النائب آلان عون، ما دفع إلى استقالة رفيقه النائب سيمون أبي رميا.

لا شك أنّها واحدة من المراحل التي تثير تساؤلات كثيرة في داخل التيار وخارجه. النائبان، المستقيل والمفصول، ليسا عاديين في تاريخ “التيار” ومساره. عضوان مؤسسان خاصة من أيام المنفى الفرنسي للرئيس العماد ميشال عون، ونائبان منذ ١٥ عاماً، فضلاً عن أنهما يمتلكان الكثير من التعاطي الدبلوماسي الهادئ المحبب. وبطبيعة العلاقة التي تربط الحزبيين وتصنع عصبياتهم على مدى أعوام، فلا شك أن الأسف سيكون حاضراً بقوة، ليتلاقى مع انطباعات ومواقف أخرى في التعاطي مع ما حدّث، على ما عبَّرت بيانات التيار الوطني الحر التي تحدثت عن “الأسف” لفصل عون واستقالة أبي رميا، لكن مع إضافة قراءتها للدوافع والأسباب.

في قراءة أوساط التيار الوطني الحر، الكثير من التفسير.
فقد انحرف التنوع في الرأي والإختلاف الطبيعي في أي مجموعة حزبية وسياسية، إلى أمرين خطيرين: الأول التفلّت من الإلتزام بالقرار السياسي، -وهنا لا داعٍ للتملص تحت شعارات شتّى- على ما حصل في جلسة ١٤ حزيران ٢٠٢٣ الرئاسية، والثاني التكوكب في تكتل داخل التكتل النيابي، على قاعدة التضامن الدائم في السراء والضراء، ما دفع هذا المسار بالتصاعد من دون توقف. مما كان ملفتاً ايضاً إطلالات إعلامية تحفل بالكثير من الإختلاف والتمايز و”التحييد” عن توجهات الحزب الرسمية، اضافة الى لقاءات سياسية “مستقلة” يتحدّث عنها “التيار” بالكثير.
ولدى متابعة هذا الجانب، يتذكر عونيون خطاب جبران باسيل في المون لا سال قبل أعوام، لجهة دعوته للإختلاف على طرح أو فكرة أو برنامج، لا صناعة انقسام عامودي مستمر وموجه يتجاوز الإختلاف الطبيعي، والمتغيّر، ما يؤدي إلى شرخ يهدد الحزب. كان استشرافه محقاً.

وفي العامل السياسي، ما يدفع حالة التيار إلى المتابعة الدقيقة وبناء تعاطيها على أساس ما تواجهه من الخارج. الأمور تتجاوز الإلتزام الحزبي، على فائق أهميته، لا بل ربطه بمخاطر سياسية كبيرة. ذلك أنّ امتناع آلان عون عن التصويت لمرشح التقاطع جهاد ازعور في مواجهة مرشح الفرض من الثنائية الشيعية، وإصراره على عدم التصريح عن تصويته، أتى في سياق من مقاومة “التيار” ضغوطاً هائلة في محاولة لإخضاعه. في جعبة نواب “التيار” الكثير مما لا يستطيعون روايته اليوم. وفي جعبة جبران باسيل، الكثير مما يمكن أن يكشف عنه إعلامياً لاحقاً. هنا، يتغلب عقل محازبي “التيار” على أي عاطفة، عندما تصبح الإستقلالية مؤذية جداً وفي لحظات سياسية مصيرية، كصناعة رئاسة الجمهورية ومستقبل لبنان. وطالما أن هذه النزعة الإستقلالية يمكن ان تمنح خصوم التيار الفرصة الفضلى لا للتفرج فقط بل لمحاولة تسجيل نقاط سياسية، فإن الضوابط تصبح ضرورية للحفاظ على وجود “التيار” في المعادلة. مصلحة الجماعة تعلو الأفراد.

المعطى الداخلي يأتي داعماً للمعطى السياسي. أن تنتقد جبران باسيل فهذا حق مشروع، أو أن تختلف معه في الداخل أو تتفق معه على ملفات متنوعة. هو أساساً يتعاطى بفصل بين الملفات. لكن القاعدة التيارية – العونية باتت تشعر بقلق شديد من محاولات التفلت التي يمكن أن تنتشر كعدوى. فكل التنوع البنيوي تاريخياً في “التيار”، تتوقف أهميته عند مخاطر الفوضى والتشرذم. ففلان يستقيل لأن تفصيلاً لم يعجبه، وآخر لم يصنعه حضوره بل توقيع جبران باسيل شخصياً، يريد التفلت والتحلل وقول ما يحلو له في ملفاتٍ وطنية دقيقة، لهوىً شخصي خاص، وآخر يتماهى مع الآخر أو يتطرف. وعندما يمكن أن يبرز خطرٌ كهذا، غير معهود في أي حزب ولو كان في عقر ديموقراطيات الغرب، لا يمكن أن يستمر التفرج على بروز “دكاكين”، كما أوضح ميشال عون في مقابلته التلفزيونية الخاصة بفصل آلان، وإبن شقيقته.

وفي دحض الدوافع أو ما ساقه كل من عون وأبي رميا، ما هو عملي ويتم اعتماده في هيئات “التيار”. من يشارك في اجتماعات المجلس السياسي يعلم كمّ الإعتراضات والملاحظات والنقاشات التي تدور لساعاتٍ ثلاثة أحياناً، حول كل التفاصيل، سياسياً وتنظيمياً. ولم يُسجل منع أحد من تشكيل قوة ضاغطة لجهة فرض رأيه، أو الترشح لرئاسة “التيار”.
وما دامت الأمثلة بالواقع تُذكَر، فإن الخلاف الكبير الذي حصل مع مستشاري الرئيس عون حول خطة لازار في حكومة حسان دياب وانتهى لمصلحة ابراهيم كنعان وآلان عون والذي كانت له كلفته العالية شعبياً، هو مثل على حدود سلطة جبران باسيل لا بل حتى الرئيس عون في عدد من القضايا والملفات. وإذا كانت كل هذه الصورة تمنح التيار الوطني الحر فرادة بين أحزاب ديناصورية حديدية، فإنها في المقابل عززت من تنامي الدعوات في القاعدة لضبط الأمور. أضف إلى ذلك تسامحاً مماثلاً لجهة حضور الخلفيات السياسية والعقائدية المتنوعة في التصريح على وسائل التواصل الإجتماعي، على الرغم من كل الحدود التنظيمية المعروفة، لكن المرنة.

لا شك أن هناك مسحة من الحزن والتساؤل تلف التياريين المعتادين على عصبية نضالية تجمعهم وتشد عضدهم. لكن في المقابل هناك شعور غالب لجهة تنامي عصبيتهم كما فعلت “١٧ تشرين”، وبالتالي الحفاظ على الوحدة والإلتزام بالقرارات، وإلا ما النفع عندها من تسمية حزب أو تيار سياسي، لا بل حتى جمعية أو ورابطة؟!
أما التصويب المستمر على باسيل، فلا طائل منه طالما أن القاصي والداني يعلم كم استمهل أشهراً لتوقيع قرار فصل آلان عون. لا بل أنه إذا كان هناك من نقد لباسيل داخلياً، فهو المبالغة في التساهل وتوسيع هامش الأدوار التنظيمية حتى الأقصى، ليصبح كل ناشط صاحب دور أو موقع أو لقب…
هذا المشهد، يجعل بين يدي “التيار” فرصة الإستفادة من المخاطر الحالية، لتعزيز تماسكه ووحدته، طالما أن التنوع في الرأي والإختلاف، مضمونان ومطبوعان فِطرياً في تكوين “التيار” ومسيرته السياسية، ولا يمكن أحداً أنْ ينتزعهما منه!

  • مسؤول إعلامي في التيار الوطني الحرّ