(لبنان الكبير)
منذ ما قبل دخول البلاد في فترة الاستحقاق الرئاسي، أي قبل 31 تشرين الأول 2022، كان واضحاً أن استعادة أزمة الفراغ الذي حلّ مع نهاية ولاية الرئيس السابق العماد ميشال سليمان ستتكرّر، ففي العام 2014 قرّر الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله أن الرئيس المقبل للبلاد يجب أن يكون العماد ميشال عون، فاستحكم الفراغ فترة سنتين وخمسة أشهر قبل أن ينتخب عون رئيساً. ومع نهاية ولاية عون، قرّر نصر الله مجدداً أن رئيس تيار “المردة” الوزير السابق سليمان فرنجية يجب أن يكون رئيساً، ولهذا فالأرجح أن تستمر مياه الرئاسة راكدة إلى حين يأتي قرار السيد بالافراج عنها إما لصالح فرنجية أو لصالح شخصية أخرى، في خطوة مستبعدة لغاية اليوم.
كان يمكن لهذا الفراغ في مرسى الرئاسة الأولى أن يكون “طبيعياً” تحت وطأة فائض القوة الذي يمارسه سياسياً الثنائي الشيعي كما كانت الحال عليه قبل انتخاب عون، لكن انطلاق “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول 2023 فاقم الأزمة، وأدخل “حزب الله” في حرب “مشاغلة” مستمرة لغاية اليوم، فكان أن ربط الحزب الافراج عن الرئاسة بوقف العدوان الصهيوني على غزة، وقبل ذلك لا رئاسة ولا “من يحزنون”.
وعلى الرغم من المحاولات الجدية والحثيثة التي قامت بها الدول الخمس المعنية بلبنان، الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وفرنسا وقطر ومصر لتحريك المسار الرئاسي ودفع المعنيين إلى النزول إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل وكادت اللجنة الخماسية المؤلفة من سفراء هذه الدول في لبنان أن تعلن انتهاء مهمتها، لكن الظروف الموضوعية والمجالات الديبلوماسية إلى جانب الجولات الداخلية أرجأت هذا الاعلان الذي بات معلوماً ولو أنه غير معلن.
ونظراً الى استفحال الحرب الصهيونية على غزة، وتطور العدوان الاسرائيلي على لبنان وتنفيذه حملة اغتيالات متنقلة طاولت مسؤولين في حركة “حماس” وقادة كباراً ومتوسطين في كل من “حزب الله” و”الجماعة الاسلامية”، حاولت القوى السياسية الداخلية التحرّك في محاولة لفصل مسار الانتخابات الرئاسية عن تطورات الحرب على غزة، فانطلقت أولاً كتلة “الاعتدال الوطني” بمبادرة لقيت استحساناً وقبولاً من فريق وازن من الكتل النيابية وفي مقدمها كتلة “التنمية والتحرير” التي يرأسها الرئيس نبيه بري، لأن هذه المبادرة قامت على فكرة التواصل والحوار، وهي الفكرة التي سبق أن طرحها ولا يزال يتبناها بري المصمم على عدم فتح أبواب المجلس النيابي قبل الجلوس إلى طاولة حوار أو استشارات أو مشاورات، مهما كانت التسمية، لكنها لب الموضوع أي التوافق على إخراج الرئاسة من العلبة العالقة في داخلها.
ولم يقف تأييد مبادرة كتلة “الاعتدال” عند القوى السياسية الداخلية، بل ان اللجنة الخماسية أيضاً تبنتها ودعمتها وحاولت الترويج لها لكنها وقفت عند حدود ما اعتبره بعض القوى المعارضة “بدعة” دستورية تتمثل بالحوار قبل الانتخاب، وهي برأي رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ورئيس حزب “الكتائب اللبنانية” النائب سامي الجميل “بدعة” يجب عدم تكريسها وليست واردة في الدستور، فلماذا يجب أن تجوز قبل انتخاب رئيس للجمهورية ولا يجوز الانخراط في مثلها قبل انتخاب رئيس للمجلس؟
لكن الأوضاع الأمنية المتفاقمة جنوباً وخطورة الاستمرار في فراغ في رأس هرم السلطة التنفيذية، وانطلاقاً من موقع وسطي معتدل وقدرة على التواصل مع جميع القوى السياسية، انطلقت كتلة “اللقاء الديموقراطي” برئاسة النائب تيمور جنبلاط وبمباركة من الزعيم وليد جنبلاط في جولة على الكتل النيابية ولم تستثنِ أي منها في محاولة لدفع الفرقاء إلى القبول بالحوار والتواصل من أجل إخراج الأزمة الرئاسية من عنق الزجاجة وتحريك مياهها الراكدة، لكن من دون جدوى وباعتراف من أمين سر الكتلة النائب هادي أبو الحسن، إذ ان الشروط نفسها التي قوبلت بها مبادرة كتلة “الاعتدال” تكررت أمام كتلة “اللقاء الديموقراطي”، فلم تكن النتيجة المرجوة.
والمثير أيضاً للاستغراب أن النائب الجميل أعلن من على منبر حزبه بعد لقائه الوفد “الجنبلاطي” تكراره رفض الحوار المشروط مسبقاً وهو برأيه التوافق على انتخاب فرنجية رئيساً، لكنه فرض شرطاً من جانبه وهو أن لا يرأس بري طاولة الحوار، وأن يقبل الثنائي بالتراجع عن ترشيح فرنجية، شرط ما قبل الحوار يقابله شرط مقابل، ما أوحى بأن محاولات الاقناع التي حاول “اللقاء الديموقراطي” ممارستها ومن قبله محاولات كتلة “الاعتدال” لا تزال من دون جدوى.
وفي “عز” الجولة الجنبلاطية، أطلق رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل من جهته جولة على الكتل النيابية في محاولة إضافية للقبول بمبدأ الحوار قبل الانتخاب، لكن لغاية مختلفة إذ ان جولته كانت واضحة بهدف إسقاط ترشيح فرنجية ومن خلفه قائد الجيش العماد جوزيف عون للرئاسة، وهذه لعمري جولة مشروطة أيضاً، فلماذا الحوار المشروط؟
يجب على الجميع الاعتراف بقدرة الثنائي الشيعي وتحديداً “حزب الله” على “ربط” الافراج عن انتخابات الرئاسة بزنده، وبالتالي عدم إعطاء اللبنانيين فرصة تحقيق “حلم” انتخاب رئيس جديد قبل انتهاء الحرب الصهيونية على غزة، لكن الأخطر في هذا “النجاح” هو أن فرص انخراط لبنان بأكمله في حرب إسرائيلية تبدو هذه المرة جدية أكثر من قبل خصوصاً بعدما “فشلت” مهمة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين في “فك” الجبهتين عن بعضهما البعض.
في الخلاصة، إن مياه الرئاسة لا تزال راكدة ولن تنفع معها جميع محاولات “تحريكها” طالما أن الحزب منشغل في حربه لمساندة الفلسطينيين، وطالما أن القوى الخارجية تسعى إلى تجنّب توسيع رقعة الحرب، واضعة الانتخابات الرئاسية في أسفل سلم اهتماماتها.
(نائب نقيب الصحافة اللبنانية)