الخلاف بين واشنطن وتل أبيب، أم بين “يهود العاصمتين”!؟

لهذه الأسباب لا يخشى جو بايدن ضغوط بنيامين نتانياهو الانتخابية. ذلك أن “يهود واشنطن” يعتقدون ان “ديمومة” الدولة اليهودية تفترض اقامة “الدولة الفلسطينية” المستقلة وهو ما يرفضه “يهود اسرائيل”.


احيت الانتقادات التي وجهها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي الى رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو الحديث عن العلاقات المتردية بين واشنطن وتل أبيب. وان احتسبها البعض عملية “توزيع أدوار”، فان التقارير الواردة من واشنطن وتل ابيب اعطت هذه المواجهة ابعادا اخرى لا تخلو من الجدية. وقد ربطتها بالخلاف الكبير بين “يهود الولايات المتحدة” و”يهود اسرائيل” في النظرة الى “اليوم التالي” للحرب. وهي نظرية تستحق التوقف عندها عشية الانتخابات الاميركية. وعليه، ما هي المؤشرات التي تقود اليها؟
ليست المرة الاولى التي يتبادل فيها البيت الابيض، وخصوصا الرئيس جو بايدن ورئيس الحكومة الاسرائيلية ومعه اكثر من وزير اسرائيلي الاتهامات التي بلغت مرحلة مستغربة لما حملته من إشارات قاسية عبر عنها الطرفان بعبارات “مهينة” خارجة عن المالوف في التعاطي بين اي من القادة ورؤساء الدول، فكيف إن كانت المبارزة قائمة بين واشنطن وربيبتها تل أبيب كما هو متعارف عليه استنادا الى ما بني من علاقات تاريخية ومميزة بين البلدين منذ نشأة الدولة العبرية قبل سبعة عقود ونصف على الرغم من تباين الآراء بين الادارتين في بعض المحطات التي تم تجاوزها بالسرعة القصوى.
وبناء على ما تقدم، تكشف تقارير ديبلوماسية وردت من واشنطن وتقاطعت مع أخرى من دول مختلفة من بينها تل ابيب، ان ما عبر عنه الرئيس بايدن، وما نطق به أكثر من مسؤول اميركي من انتقادات قاسية ومهينة بحق نتانياهو، قد تزامن مع تناقلته وسائل الإعلام الدولية من معلومات عن المجازر التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي في قطاع غزة وما حصدته من ضحايا وشهداء من بينهم نساء واطفال بعشرات الآلاف، وما الحقته من تدمير بالبنى التحتية ولا سيما في المنشآت الطبية والتربوية ومراكز الإيواء الاممية. وقد عبروا فيها عن قلقهم من حجم الضحايا إلى ان فاجأتهم الدعوى امام محكمة العدل الدولية وصولا الى صدور قرارها في نهاية كانون الثاني الماضي باتخاذ “إجراءات مؤقتة” بحق اسرائيل. بعدما اتهمتها خلال الجلسة التي عقدتها للنطق بالحكم الأولي في القضية المرفوعة أمامها من قبل دولة جنوب أفريقيا بارتكابها “جرم الإبادة الجماعية” وهو ما أصاب واشنطن منها من ترددات نتيجة دعمها الاعمى لها. كما اضطرت واشنطن الى مراجعة بعض الاتفاقيات التي عقدت بين واشنطن وتل ابيب والتي تتحكم بأصول استخدام الاسلحة الاميركية في المدن الحضرية وقرى الضفة الغربية فاصدرت عقوبات بحق بعض الالوية والمنظمات اليهودية في موازاة ما اصابها من قلق بتوسع العمليات العسكرية الى ساحات المنطقة من اليمن الى العراق وسوريا .
و بمعزل عن هذه المواجهات، التي بقي معظم وقائعها ملكا للطرفين، فقد تلاحقت المواقف السلبية المتبادلة في الأيام الأخيرة الماضية بين واشنطن وتل ابيب، في أعقاب المبادرة التي أطلقها الرئيس بايدن لوقف النار في غزة، وما اقترحه من إجراءات ميدانية نسب بعضها الى الجانب الاسرائيلي قبل ان يتهمه نتانياهو بـ “تزويرها” وهو ما زاد من حدة المواقف بينهما وصولا الى مرحلة يجب التوقف عندها بحثا عن الفصل الواجب قيامه بين كونها خلافا كبيرا مباشرا ام انها عملية تبادل ادوار عشية دخول الولايات المتحدة الاميركية مدار الانتخابات الرئاسية. وكل ذلك كان يجري وسط معلومات تحدثت بأن نتنياهو ينوي اطالة الحرب حتى موعدها في تشرين الثاني المقبل واستدراج واشنطن اليها تمهيدا لإلحاق الأذى برئيسها في الانتخابات باعتباره من الساعين ما أوتي من قوة لتسهيل عودة الرئيس السابق دونالد ترامب الى البيت الأبيض مطلع العام المقبل.
وان سعى البعض الى مزيد من التفاصيل، عليه ان يطلع على بعض التقارير الديبلوماسية التي تحدثت عن خلافات كبيرة بين اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة والحكومة الاسرائيلية الحالية ورئيسها بنوع خاص في نظرتهما الى الحل في المنطقة، وكيفية حماية “دولة اسرائيل” من التطور الديمغرافي الفلسطيني السلبي الذي يقض مضاجعها، فتخشاه الى درجة توقعت فيها دراسات يهودية الى ان عدد الفلسطينيين في مناطق الـ 48 والضفة قد يتجاوز عدد اليهود قبل العام 2050 وهو ما يهدد الكيان وتركيبة الدولة اليهودية.
وقالت هذه التقارير ان يهود الولايات المتحدة الاميركية وما تعبر عنه معظم جمعياتهم ومؤسساتهم قد كشفوا عن خلافهم الكبير مع نتنياهو في أكثر من مجال ولا سيما في مدى استعجال التطبيع مع المملكة العربية السعودية وتلبية مطالبها بـ “حل الدولتين” والنظر بايجابية الى مطالب الفلسطينيين بحق العودة وتقرير المصير، وإنهاء الاحتلال لمناطقهم بما فيها قطاع غزة ووقف الاستيطان في الضفة الغربية وازالة بعض المستوطنات غير الطبيعية فيها. الى درجة تسمح باقامة “الدولة الطبيعية” ما بين الضفة والقطاع والبدء بإعمار ما تهدم. وهم يرون ان ضمان “ديمومة” الدولة اليهودية يفترض إقامة تلك “الدولة الفلسطينية” المستقلة. فالفكر الصهيوني الأصلي يقول بضرورة الفصل بين اليهود والفلسطينيين مسيحيين ومسلمين ليحتفظ اليهود بالاكثرية من ضمن أراضي دولة “اسرائيل الجغرافية” في ظل استحالة اقامة الدولة التي يحلمون بها من البحر الى النهر.
وفي هذا الاطار اشارت التقارير عينها، وخصوصا تلك التي تناولت هذا الجانب من الخلاف بين يهود الدولتين إلى ان كلا من نتانياهو وترامب يرفضان هذه المعادلة المقترحة، ويصرون على تهجير اكثرية الفلسطينيين وان تمكنوا من أراضي الـ 48 قبل الضفة والقطاع. وهم كانوا وما زالو يقرون بضرورة انشاء الدولة الفلسطينية “البديلة” في سيناء وربما على ارض اردنية او في أي منطقة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها.
على هذه الخلفيات، يبدو ان بايدن مرتاح لموقف “اليهود الاميركيين” المؤيدين له، ولا يخشى من أية ضغوط يمكن ان يقوم بها نتنياهو في معركته الانتخابية. وان ادارته على يقين بأن هؤلاء اليساريون والمقربين من اليسار الاسرائيلي يؤيدونه انطلاقا من توافقهم على النظرة الى “اليوم التالي” في غزة و”مستقبل الدولة اليهودية”. وهم عبروا في أكثر من محطة انتخابية عن قربهم وتحالفهم العميق مع الحزب الديمقراطي وسيخوضون مواجهة قوية مع الحزب الجمهوري وانصار ترامب وان اي نقاش يطال هذا المنطق لا يحتمل الكثير من الجدل في أوساطهم وهم سيصوتون بنسبة تزيد على 75 % منهم الى جانب بايدن تحت أي ظرف كان.
ويضيف العارفون بالكثير من التفاصيل بان هؤلاء اليهود الذين صوتوا الى جانب بايدن في المواجهة الاخيرة مع ترامب عام 2020، انكروا على ترامب ما قدمه لـ “الدولة اليهودية”، من نقل السفارة الاميركية من تل ابيب الى القدس، ومساندته وتبنيه قرار ضم “الجولان المحتل” إلى اراضي الدولة اليهودية وقدم لهم ما سمي بـ “صفقة القرن” التي تنهي أي حلم بالدولة الفلسطينية.
واستنادا الى ما تقدم، توحي هذه التقارير في حصيلتها النهائية، انه والى جانب الخلاف الذي لم يعد بالإمكان إخفاؤه بين بايدن ونتنياهو ومعهما من يدور في فلكهما له ما يوازيه من خلاف عميق اقترب من ان يكون استراتيجيا بين ما يمكن تسميتهم بـ “يهود الولايات المتحدة” و”يهود السلطة” في تل أبيب وهو ما قد يتقدم في أهميته على باقي اوجه الخلاف قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستثبت زيف هذه النظرية في مقابل صوابيتها وما علينا سوى الانتظار.

الجمهورية – جورج شاهين