رسالة إلى أبي
جوزف مارون القصيفي نقيب محرري الصحافة اللبنانية
كل يوم يمر يزورني طيفك ، وكأنه جناح ملاك يتراءى ، عابرا السحب، ليتفقدني، ليقف على احوالي، متسقطا اخبار من غادرتهم، وما زالوا يعتقدون ، بل متيقنون، أن لغيابك وقع الحضور.
ايها الوجه المرسوم بالتعب ، والقهر ، المندى بعطر عرق الجبين، الموشى باللهاث وراء لقمة نظيفة غير ملوثة بكسب حرام ، تطعمها عائلتك الصغرى التي كانت تنتظر وصولك من العمل كل مساء، تتلقف من يديك ما حملت من أكياس، تشي محتوياتها بكرم غير موصوف، رغم ضيق ذات اليد.
لا ننسى اننا كنا اول من يتذوق الفاكهة وهي في بواكيرها ، فتبادرك امي :” خير الدني ورزق جديد، ويللي طعمنا عمرو يزيد”.قد لا يكون عمرك زاد في عداد السنين، لكنه لم يزد او ينقص في عيني، لأنك تبقى فارسي المفضل، شاهرا سيف الصدق والاستقامة، كلامك نعم نعم، أو لا لا، إيمانك ينقل الجبال من مواضعها، تتمثل بك النخوة، ولست تتمثل بها، شجاع- رحوم، رحوم -شجاع ، جمعت في شخصك قلبين: قلب الاسد وقلب الحمل. اي كنت مقداما، مهابا، وحنونا ، عطوفا في آن.
علمتني حب الوطن، والوفاء للارض، والاندفاع في خدمة الناس بكل ما وسعت طاقتي، وأن لا فقير الا الجاهل، فكنت ، وانت المحدود الدخل، اكثر غنى من ساكني القصور، وأصحاب الخزائن المليئة، لأنك كنت أقرب إلى البسطاء، والفقراء، والمساكين، منهم. فاحبك هؤلاء جهارا، واقتناعا، لا مسايرة ومحاباة.
وعندما خانك قلبك- وما كنت يوما خؤونا- بكاك الجميع بألم وحرقة. بكوك كما لم ابكك انا. عندها عرفت ماذا يعني أن يكون لي آب بمثل هذه القامة التي ما حاولت يوما ابرازها ، لتواضع كبير انطوى عليه شخصك. وانا اعرف انه بإمكانك أن تكون غير ذلك. لكنك أبيت لأنك لا تتزلف، ولا تهادن ولا تساوم، ولا تسعى إلى منصب، وإن صدف أن آلت اليك وظيفة ومهمة، فلانك كنت الاقدر على القيام باعبائها.
جريء حتى تخشى الجرأة منك، شفاف كفراشة الضؤ ، يسعدك ان تحترق في سبيل آلاخر، تخدم وتخدم وتخدم ، ولا توفر وسيلة لإرضاء صاحب حاجة، أو الحث على مساعدته.
حاد كنصل سكين، عذب كنبع لألأ منبجس من رحم الأرض.
أشركت آلامك بآلام ابنك المريض، الذي عاملته معاملة الكائن الصحيح المعافى، وكنت تحرص على اصطحابه إلى أي مكان عام ترتاده دون خجل أو عقدة، وكنت تعامله معاملة الند للند . كنت لا تستحي به أمام الناس، لأنه هبة الله، وانت ما اعتدت أن تكفر بما قسمه ربك عليك. هكذا احتضنته حتى خطفه الموت منك، ففجعت، وظل في القلب جرحا نازفا لازمك حتى الرمق الاخير من حياتك.
وعلى الرغم من حزنك الدفين ، والمك المقيم ، ومعاناتك الدائمة، كنت تجد متسعا للنكات والنوادر ، ترسلها بما حباك الله من سرعة بديهة، وحضور ذهن، وثقافة واسعة حصلتها لا من المدرسة النظامية، بل من نهمك للمطالعة الذي اورثتني، وهو الكنز الذي به اعتز.
علمتني ، كما علمت شقيقتي، واردت أن تحصننا بالمعرفة لنجبه تحديات الحياة، أنفقت ما في الجيب والغيب لتحصيلنا، إيمانا منك بأن الاستثمار في الانسان، هو ابقى من الاستثمار في عقار أو في تجارة. كنت تسعى وراء العيش الكريم بأسلوب كريم، لا وراء الثراء الفاحش باي وسيلة أو اسلوب لا يحفظان ماء الوجه، بل يزيدانه تلطخا.
كثيرة هي الذكريات يا ابي. ولو اردت تدوينها لامتدت على مساحة كتاب، وهي جميعها محطات مضيئة وطنيا، اجتماعيا وانسانيا. وعلى الرغم من الحزن الذي لف حياتنا، والمآسي التي داهمتنا، كنا نشعر معك اننا بأمان. وكنا عائلة سعيدة ، لأنك كنت خيمتنا، بل وتد الخيمة وقاعدتها، والكف الرؤوم الذي يعيدنا برفق إلى دفء بيتنا ، والبنفسجة الحيية التي تعطر دروبنا باريج الحب. ناء قلبك باوجاعك، وحزنك العميق، وبغدرات الزمان التي توالت عليك، فتوقف بعد استشفاعك لأمك العذراء مريم العذراء التي استودعتها روحك.
ابي … تعرف اني احبك… وانك تسكن حدقة عيني وبؤبؤها، وانك فارس الحكايا، وبطلي المفضل، انت المناضل الصامت، والرجل الذي يعرف ان يعض على جرحه، فيشكو أمره لله، لله وحده.
رحلت فجأة ، ولكنكi كنت مطمئنا إلى أحفاد ولدوا قبل أن تؤذن شمس المغيب، فقرت عيناك برؤيتهم، وكم كنت أود لو طال بك العمر، لتراهم يشقون عباب الحياة بثقة وأمل. لكن كن على يقين بانهم يعرفونك تماما ، كما لو انك لا تزال بينهم. انهم يحبونك كثيرا، انهم يحبونك كثيرا، كما احببتهم وانت تلاعبهم، تحملهم على كتفيك ، وتحمل لهم السكاكر والشوكولا، والهدايا، وترندح لهم أغنيات كنت تؤديها لي ولاخوتي منذ ايام الطفولة.
ابي سلام عليك حيث انت. نحبك. لن نخبرك أن لبنان ليس بخير . فقد تحزن ، وتعود إلى البكاء. نريدك سعيدا في جوار آلاب السماوي الذي عشت منصاعا لمشيئته.