وسط دوران المشهد السياسي الداخلي في دوامة العقم الرئاسي وتعدّد الوساطات والتحركات بلا أي افق جديّ لبلوغ أي اختراق إيجابي وشيك، عاد التصعيد “النوعي” بل “الإستراتيجي” الميداني بين إسرائيل و”حزب الله” إلى واجهة التحديات اللبنانية في ظل خطورة التطورات التي سجلت في الساعات الماضية، والتي من شأنها تكبير احتمالات استباحة لبنان امام حرب شاملة.
ومع أن العالم يترقب مصير أقوى حملة ديبلوماسية ضاغطة تتولاها الديبلوماسية الأميركية عبر الجولة الثامنة لوزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن في المنطقة منذ اشتعال حرب غزة، إلا أن لبنان بدا معنياً على نحو أساسي بجلاء نتائج هذه الحملة الهادفة إلى وقف الحرب بما سينسحب حتماً على الجبهة اللبنانية كما سبق للمسؤولين الأميركيين أنفسهم أن اكدوا مراراً. ولذا أثارت موجة تبادل تسديد الأهداف البعيدة المدى التي شهدتها الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية ليل الاثنين وفجر الثلثاء مخاوف متزايدة في ظل تطورين اثنين: الأول، غلبة الطابع الإستراتيجي الحربي على الغارات الإسرائيلية التي طاولت للمرة الأولى البعد الأعمق في لبنان في منطقة الهرمل رداً على تكثيف “حزب الله” في الآونة الأخيرة استخدام “سلاح كاسر” عبر منظومة صواريخ أرض – جو المضادة للطيران الحربي الإسرائيلي. وبذلك فتحت المواجهة على مزيد من الشراسة واستدراج أسلحة ومفاجآت جديدة يمكن أن تتسع معها المواجهات إلى حدود وسقوف غير مسبوقة منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. والتطور الثاني أن الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية بدت كأنها تسابق بتداعياتها الخطيرة مجريات الحرب في غزة بدليل أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لم يتمالك في كلمته أمام مؤتمر عمان لإغاثة غزة أن يُطلق نفير طلب الاستغاثة للجنوب اللبناني المنكوب أسوة بغزة نفسها.
إذن، غلب واقع التصعيد الميداني على المشهد السياسي الداخلي بعدما توسعت الغارات الإسرائيلية نحو أقصى الهرمل في البقاع. وأعلن “حزب الله” أمس أنه رد على ذلك بقصف مقر فوج المدفعية ولواء المدرعات التابع لفرقة الجولان 210 في ثكنة يردن بعشرات صواريخ الكاتيوشا وأن وحدة الدفاع الجوي لديه تصدت منتصف ليل الاثنين- الثلاثاء لطائرة انتهكت الاجواء اللبنانية، وأطلق باتجاهها صاروخ أرض – جو، كما أعلن أن عناصره استهدفوا تجمعاً لجنود الجيش الإسرائيلي في محيط مستوطنة نطوعا بالأسلحة المناسبة، ومبنى آخر يستخدمه الجنود في مستوطنة المطلة.
وفي المقابل، أفاد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي انه ردًّا على إسقاط “حزب الله” طائرة مسيّرة لسلاح الجو عملت في الأجواء اللبنانية، أغارت طائرات حربية على مجمع عسكري يتبع للوحدة 4400 وحدة القوة اللوجستية في “حزب الله” والهادفة إلى نقل الوسائل القتالية إلى لبنان وداخله وتم استهداف منطقتيْن داخل المجمع الذي يقع في منطقة بعلبك في عمق لبنان. كما تم استهداف كواقع أخرى في منطقة عيترون جنوب لبنان”.
وكان الطيران الإسرائيلي نفذ ليل أمس سلسلة غارات عنيفة استهدفت منطقة حوش السيد علي في قضاء الهرمل. وأفاد “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أن ضربات جوية إسرائيلية استهدفت رتل شاحنات قرب منطقة القصير على الحدود بين سوريا ولبنان، والتي يسيطر “حزب الله” على جانبيها السوري واللبناني. وقد نجت بلدة فنيدق في عكار من كارثة لدى سقوط صاروخ على منزلين متجاورين بما احدث اضراراً فادحة وأثار ذعراً واسعاً وأصيب ثلاثة أطفال وشاب إصابات طفيفة.
وحضر الواقع الميداني للجنوب في الكلمة التي القاها رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الأردن متطرقاً الى ارتدادات حرب غزة على أرض لبنان قتلاً وتهجيراً وتدميرا. وقال في مؤتمر الاستجابة الإنسانية الطارئة في غزة الذي انعقد في عمان أنّ “نهج التدمير الذي تتبعه إسرائيل لا سابق له في التاريخ ونختبره يومياً في لبنان على أرض جنوبنا الغالي”. وأكّد أنّ “لبنان مستعد اليوم لإغاثة مصابي غزة خاصة الأطفال في مستشفياته ومؤازرتهم تعبيراً عن تضامنه معهم إضافة الى المساعدة في تجهيز كوادر طبية وتأهيلها للتعويض عن قتل إسرائيل لمئات العاملين في القطاع الصحي”.
وتابع: “لكم أن تتخيلوا حجم الأضرار الحاصلة في لبنان نتيجة العدوان المستمر منذ الثامن من تشرين الاول (أكتوبر) الفائت. جنوبنا وأهله في نكبة حقيقية لا وصف لها والعدوان المستمر يُمعن في القتل والتدمير والحرق الممنهج محوّلاً جنوب لبنان أرضًا قاحلة ومحروقة”.
حركة ولا اختراق
وأما في المشهد السياسي الداخلي، فلم تبدل صورة كثافة التحركات من مضمون الانسداد بحيث ظلت المواقف السياسية الأساسية تدور حول نفسها بما يستبعد معه أي توقعات متفائلة في إمكان إيجاد فسحة وسطية في الخلاف العميق الحاد بين “الثنائي الشيعي” تحديداً وقوى المعارضة لا سيما منها “القوات اللبنانية” حول موضوع التشاور أو الحوار .
وفي إطار الجولة التي يقوم بها منذ أيام التقى رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل النائب فيصل كرامي الذي اعتبر أن “علينا أن نبقي خطوط التواصل مفتوحة للخروج من الأزمة الرئاسية التي هي مفتاح كل الحلول، والحوار أو التشاور هو المخرج الوحيد وما طرحه الرئيس بري خارطة طريق ونذهب من دون شروط مسبقة”.
بدوره، أشار باسيل إلى أن “لا حل إلا بالتفاهم والتوافق على رئيس “لأن غير هيك ما حدا حيقدر يوصل رئيس” وأي رهان على فوز فريق على آخر هو فشل”. أيضاً، في اطار جولته على القوى السياسية، التقى رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب تيمور جنبلاط على رأس وفد من اللقاء الديموقراطي في منزل الرئيس عمر كرامي، أعضاء تكتل “التوافق الوطني”، فيصل كرامي ومحمد يحيى وعدنان طرابلسي وحسن مراد. واجتمع رئيس مجلس النواب نبيه بري مع وفد من تكتل “التوافق الوطني النيابي” ضم النواب: فيصل كرامي، حسن مراد، عدنان طرابلسي ومحمد يحيى الذي أكد “أن رأينا ورأي الرئيس نبيه بري أننا لا نستطيع أن نصل الى انتخاب رئيس للجمهورية إلا بالحوار”.
في المقابل رد رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ضمناً على المواقف الأخيرة للرئيس بري، فكتب على حسابه عبر منصة “إكس”: مرتا مرتا، تطرحين كل يوم أموراً عدة، ومواضيع شتى، واقتراحات جمّة، وتتعبين نفسك وتتعبين الشعب اللبناني معك، وهذه الاقتراحات كلها لا علاقة لها بالموضوع الرئيسي… المطلوب واحد: الدعوة إلى جلسة انتخابية بدورات متتالية حتى انتخاب رئيس للجمهورية. مرتا مرتا، إذا كنت تصرّين على الحوار جدياً، مع أنه ليس معروفاً عن العديد من حلفائك أنهم جماعة حوار، فبيوتنا جميعاً مفتوحة، وممثلونا يلتقون ممثليكم كل يوم وكل لحظة، ونحن جاهزون لأي تشاور كما يجب أن يكون التشاور قبل أي جلسة انتخابية”.
وفي موقف لافت جديد رأى نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، أن “كل ما نقوم به لن ينتظم من دون انتخاب رئيس جمهورية، وهو أمر لن يحصل من دون الكلام مع بعضنا البعض بأي صيغة كانت”. وقال في تصريح بعد جلسة اللجان المشتركة: “أخشى مجددًا ألّا ينتخب هذا المجلس رئيسًا للجمهورية، وأن نبدأ التحضيرات لاقتراح قانون يرمي إلى تمديد ولاية المجلس النيابي الحالي” .
(النهار)