ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القداس الإلهي والسيامة الأسقفية للأب ميشال الجلخ رئيسا لأساقفة نِصِّيبين شرفا للموارنة، على مذبح الكنيسة الخارجية للصرح البطريركي في بكركي “كابيلا القيامة “، عاونه فيه رئيس أساقفة بيروت المطران بولس عبد الساتر وراعي أبرشية أنطلياس انطوان بو نجم، ومشاركة عميد دائرة الكنائس الشرقية في الفاتيكان الكاردينال كلاوديو غودجيروتي، والبطاركة يوسف عبسي، مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، مار روفائيل بدروس الحادي والعشرين، مار اغناطيوس افرام الثاني، السفير الباباوي في لبنان باولو بورجيا، الكاثوليكوس آرام الأوّل ممثّلا بالمطران شاهان سركيسيانو، والأساقفة فرانشيسكو برونارو، أندريه غابرييل فيرادا موريرا، أساقفة الكنيسة المارونية في لبنان وبلدان الانتشار، والرؤساء العامين والرئيسات العامات والكهنة والراهبات، رئيس الرهبانية الأنطونية الاباتي جوزيف بو رعد، مجمع الرئاسة العامة في الرهبانية.
وحضر السيامة نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب وجمع من الوزراء والنواب من مختلف الكتل النيابية ونواب ووزاء سابقون، إضافة إلى ممثلين عن قادة الاجهزة الامنية، ومديرين عامين، وفاعليات سياسية وأمنية وديبلوماسية وقضائية ودينية ونقابية وإعلامية وتربوية واجتماعية، وعائلة المطران الجلخ وأبناء قريته.
وخدمت قداس السيامة جوقة الجامعة الأنطونية برئاسة المايسترو الأب توفيق معتوق والمرنّمة جومانا مدوّر.
بعد الإنحيل المقدس ألقى البطريرك الراعي عظة جاء فيها:
على صخرة إيمان بطرس يبني المسيح كنيسته. فسمعان بطرس أعلن إيمانه بجوابه على سؤال يسوع: “وأنتم من تقولون إنّي هو” (متى 16: 15)، بقوله له من دون تردّد: “أنت هو المسيح إبن الله الحيّ” (متى 16: 16). فامتدح يسوع إيمان بطرس الذي هو عطيّة من الآب السماويّ. وسمّاه صخرة – أي Petros باليونانيّة، و”كيفا” بالآراميّة – يبني عليها كنيسته. وبعد قيامته، وعلى شاطئ بحيرة طبريّة، سلّم الربّ يسوع قيادة الخراف-النفوس التي افتداها بدمه، لمحبّة بطرس للمسيح: “يا سمعان بن يونا أتحبّني؟ نعم يا ربّ أنت تعلم كلّ شيء وأنت تعرف أنّي أحبّك! فقال له الربّ: “إرعَ خرافي” (يو 21: 17).
وأضاف الراعي: ” على إيمان بطرس ومحبّته الكبيرة للمسيح، بنى الربّ الكنيسة، وسلّم رعايتها لبطرس . هو المسيح إيّاه يطرح عليك أيّها الأسقف الجديد ميشال السؤالين الأساسيّين: “من تقول أنت إنّي أنا؟” يقتضي الربّ جوابًا شخصيًّا، لا جوابًا من الكتب. جوابًا أنت تعيشه من خلال خدمتك وعيش دعوتك في حياتك الرهبانيّة. واليوم في خدمتك الجديدة كرئيس أساقفة شرفًا لنصيبين، وكأمين سرّ مجمع الكنائس الشرقيّة. من هو المسيح بالنسبة إليك اليوم وكلّ يوم؟ من هو المسيح بالنسبة إليك في صعوبة مهمّتك، ورتابة الحياة، وصعوباتها اليوميّة؟ من هو المسيح بالنسبة إليك، وأنت تواجه صعوبات الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة العديدة، وأنت مدعوّ لتعطي جوابًا ومثالًا. فلا يسعك أن تشهد للمسيح من دون أن تنصت يوميًّا لصوت الآب.
ويطرح عليك الربّ يسوع سؤاله الثاني ثلاث مرّات: “يا ميشال أتحبّني؟ وفي قرارة نفسك، أتستطيع أن تجيب ثلاثًا مثل سمعان-بطرس: “نعم يا ربّ، أنت تعلم كلّ شيء وأنت تعرف أنّي أحبّك” (يو 21: 17). يسألك هذا السؤال لأنّه يريد أن يسلّمك حبّه للخراف، بحيث يمرّ حبّه للنفوس من خلال قلبك وشخصيّتك وعملك ومعرفتك. فلا تنسى أنّك مدعوّ في وظيفتك الجديدة لهذه الرسالة.
فأنت مستعدّ لها بما غرفت من علم وشهادات في الجامعات الرومانيّة. فأنت حامل شهادة دكتوراه في العلوم الكنسيّة الشرقيّة من المعهد الحبريّ الشرقيّ في روما، وشهادة ماجيستر في الليتورجيا، وشهادة عليا في العزف على آلة البيانو، وشهادة في إدارة الأملاك الكنسيّة. وقد علّمت مواد اللاهوت الكنسيّ والحوار المسكونيّ وتاريخ الكنائس الشرقيّة في كليّة اللاهوت في الجامعة الأنطونيّة وجامعة الروح القدس الكسليك. ولك العديد من المقالات والكتب باللغات التي تتقنها: العربيّة والإيطاليّة والإنكليزيّة والفرنسيّة. لقد إختارك قداسة البابا فرنسيس لمساعدته في خدمته الرسوليّة لإيمانك بالمسيح، ولمحبّتك له. فكن أيّها الأخ الجليل عند انتظار قداسته، لا شكّ في أنّك ستكون كذلك؛ بفضائلك الرهبانيّة والكهنوتيّة وعلومك التي كسبتها في سنواتك العديدة في روما طالبًا ومتخصّصًا ومعتمدًا في مجمع الكنائس الشرقيّة لمدّة خمس سنوات، ثمّ أمينًا عامًّا لمجلس كنائس الشرق الأوسط لمدّة خمس سنوات فرئيسًا للجامعة الأنطونيّة.
وفي 15 شباط 2023 عيّنك قداسة البابا فرنسيس أمين سرّ دائرة الكنائس الشرقيّة، وفي 23 كانون الثاني مستشارًا في دائرة تعزيز وحدة المسيحيّين، وفي 8 آذار 2024 رئيس أساقفة نصيبين للموارنة شرفًا. “
وتابع الراعي: ” إنّ المسيح الذي يدعوك لتقيم معه، مثلما دعا الرسل الإثني عشر يجعلك رجل صلاة وإعلان شركة. يقيمك رجل صلاة، يرفع إلى الله يوميًّا الأشخاص والحالات، على مثال موسى الذي رفع يديه إلى السماء عن شعبه، لتصبح على مثال يسوع ضحيّةً ومذبحًا لشعبه. ويرسلك رجل إعلان للبشارة إلى الخلق أجمعين، من حيث أنت، وفي الحالة التي أنت فيها، هذا الإعلان يعني بذل الحياة بدون تحفظات، والإستعداد لقبول التضحية الكاملة بالذات. ويرسلك رجل الشركة بحيث تتحلّى بموهبة العيش معًا، محافظًا على الوحدة، ومعزّزًا الشركة. “
وختم الراعي العظة قائلاً: ” إلى عناية أمنّا مريم العذراء، سلطانة الرسل، نوكل حياتك وخدمتك، لكي تكون دائمًا راعيًا صالحًا “وفق قلب الله، ترعى القطيع بعلم وفطنة” (إرميا 3: 15)، رافعًا دائمًا المجد للثالوث القدّوس الذي اختارك إلى الأبد آمين.”
بعدها جرت مراسم رتبة السيامة الاسقفية للاب الجلخ بوضع يد الكاردينال الراعي وتم إلباسه الشارات الحبرية معلنا اياه اسقفا جديدا على مذبح الرب.
وفي نهاية المراسم ألقى المطران الجلخ كلمة جاء فيها :
“في اللحظات المفصليّة من العمر يتوقّف المرء برهة ليجرد ما عنده من حسابات ويستخلص منها العبر ربّما، فتستوقفه مفارقات حياته ويرى ما لا يراه في زمنه العاديّ ويوميّاته الروتينيّة. هذه هي حالي، إذ أرى اليوم، وبوضوح أشدّ كيف أنّ يد الربّ رافقتني منذ البداية لتقودني في أهمّ القضايا كما في أصغر الأمور، وتخلِّصني من عثرات الحياة وأضاليلها، ومن أوهام الدنيا العابرة وأباطيلها. لقد أكرمني الربّ خير كرم، وأنعم عليّ أن أتذوّق وأنظر باكرا ما أطيب طعمه وما ألذّ العيش في سكناه.
وإذا ما استعرضت طفولتي أقول إنّي تعرّفت، فتعلّمت، بفضل أبي وأمّي، أن أحبّ الله أوّلا وآخرا، وأعمل برضاه. ومع دخولي الرهبانيّة ومرحلة التنشئة تعرّفت، فتعلّمت، بفضل معلّميّ، أن أحبّ رهبنتي ورسالتها وسخاءها وروحانيّتها وآباءها ونسّاكها وقدِّيسيها. وفي مرحلة الدراسة في إيطاليا تعرّفت، فتعلّمت أن أحبّ الكنيسة الجامعة بتنوّعها وغناها وحضارتها وعظمة فنونها المتعددة. وفي بداية حياتي الكهنوتيّة في روما تعرّفت، فتعلّمت أن أحبّ الرهبانيّات الأخرى المارونيّة منها والملكيّة الكاثوليكيّة والأرمنيّة، وذلك بسبب تفاعلنا وبحكم مسؤوليّاتنا عن جماعاتنا وأديرتنا. وفي مدرسة الأنطونيّة الدوليّة عجلتون تعرّفت، فتعلّمت أن أحبّ وأخدم بيئتي وأهلي وأساتذتي وتلاميذي. وفي مجلس كنائس الشرق الأوسط تعرّفت فتعلّمت أن أحبّ أخي الأرثوذكسيّ والإنجيليّ بحكم علاقاتي بهما وعملنا معا. وفي الجامعة الأنطونيّة تعرّفت فتعلّمت أن أحبّ وأخدم أخي الشيعيّ والسنِّيّ والدرزي… وفي كلّ هذا تعرّفت فتعلّمت أن أحبّ كنيستي المارونيّة وأفتخر بها وبتاريخها وانفتاحها وإرثها وتضحياتها.
لقد أصبحت صلاتي مجبولة بصلاة أخي الضعيف الأرثوذكسيّ في الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وأخي الأرمنيّ المهجّر قسرا من ناغورنو-كراباخ، وأخي الأرثوذكسيّ الشرقيّ المستضعف في إرتريا وإثيوبيا، وأخي الكاثوليكيّ المقهور في سوريا، وأخي المسلم المشرّد والمقتول في غزّة. لقد أصبحت كلّ قضيّة محِقّة تعنيني لأنّ المسيح يعنيني، وهو الحقّ والحقيقة والعدل والعدالة.
في أوكرانيا، كما في غزة وسوريا والعراق، وكما في كلّ الحروب، إنسانيّتنا هي التي على المحك. إنّ الإنسان الذي فينا لا يمكنه أن يغلق عينيه عمّا يدور حوله. كلّنا معنيّون بالأخوّة وبالمحبّة، لأنّ الله محبّة!
خبرة السنة الفائتة في دائرة الكنائس الشرقيّة، المعطوفة على سنوات ثمان سابقة، علّمتني ألّا مفرّ من الاتّكال على النفس، والتعاون الصادق من أجل خير أبنائنا وبناتنا في هذا المشرق، وعلّمتني بالأخصّ أن أصلّي من أجل شعوبنا وأوطاننا، ومن أجل كلّ ضعيف ومظلوم وفقير ومحتاج. إنّهم وديعة الربّ التي تسلّمتها: علّني أستحق يوما أن أقول ما قاله السيّد “لقد حفظتهم باسمك” (يوحنا 17: 12). فكم من قضايا كنسيّة تحتاج إلى صلاة نرفعها الى الله أكثر منها إلى معالجة إداريّة بيروقراطيّة بحتة.
وإنّني، إذ أحمل كلّ هذه الأمور في صلاتي ووجداني، لا أنسى قضيّة وطني لبنان. أملي أن يتخطّى أزمته وصعوباته التي ليست بشيء إن كنّا على قلب واحد: كلّنا نحبّ هذا الوطن وكلّنا نرغب في العيش على أرضه، ما ينقصنا هو قليلٌ من الزّهد والتواضع والتراجع عن تعنّتنا وأنانيّتنا حتى نجد مكانا مشتركا نلتقي فيه، لننطلق بهذا الوطن الفريد بتكاتفه الإنسانيّ، والجميل بصلابته الروحيّة، والحاضن هويّاتِه المتنوِّعة، والمتميِّزِ بمجتمعه المبنيّ على العائلة وقِيمِها.
أرفع الشكر إلى الله على كلِّ ما أعطانيه، هو من أشرق في قلبي لأدرك أنّني لست سوى “آنية من خزف، كما يقول الرسول بولس، تحمِل هذا الكنز ليظهر أنّ تلك القدرة الفائقة هي من الله لا منّا” (2قور 4: 7).
بتحيّة البنوّة أشكر قداسة البابا فرنسيس، اليسوعيّ الذي أوْلى الحياة المكرّسة والكهنوتيّة اهتماما فائقا منذ تولّيه السّدّة البطرسيّة. أشكره ليس لأنّه اختارني فحسب، بل لأنّه من خلال اختياره إيّاي ميّز الكنيسة المارونيّة بكهنتها، وميّز معها رهبانيّاتنا التي أرسلتْ وما زالت ترسل فعلة للحصاد وخدّاما في حقل الرب.
أتوجّه بالشكر العميق إلى صاحب الغبطة والنيافة مار بشارة بطرس الراعي على محبّته الأبويّة التي غمرني بها منذ سنين وسنين، وبالأخصِّ منذ تعييني أمين سرّ دائرة الكنائس الشرقيّة مرحِّبا بهذه الخطوة ومقدِما كلّ تشجيع ودعم. وكم يسعدني أن يكون غبطته هو من وضع يده ورسمني أسقف شرف على أبرشيّة نِصِّيبين للموارنة العريقة بتاريخها وتراثها ومدرستها اللاهوتيّة والفلسفيّة. كيف لي ألّا أكون وفيّا لأبوّته ومقدِّرا مواقفه وهو الحريص على حمْل الأمانة “بالشركة والمحبّة”.
شكري الكبير لرهبانيّتي الأنطونيّة الممثّلة بشخص رئيسها العام الأبّاتي جوزف بو رعد، كما وأيضا بعرّابي المطران سمعان عطالله. هذه الرهبانيّة التي أدين لها بأجمل ما عندي وبأفضل ما قمت به. فيها حلمت وفيها تأجّجتْ نار الحقائق الإلهيّة بداخلي، ومِن منهلها استقيت المشورات الإنجيليّة والمعارف الروحيّة.
أمّا شكري الخاصّ والحميم فهو لأمِّي سلوى وأبي الياس على عنايتهما بالعائلة وعلى تضحياتهما الدائمة وصلاتهما الثابتة. الشكر لكما على القِيم التي زرعتماها فيّ منذ نعومة أظفاري، وعلى احترامكما خصوصيّة خياراتي. لقد شكّلتما حجر الزاوية الذي بنيت حياتي عليه، وكنتما خير مثال في العطاء والتفاني والمجّانيّة. أشكر الله عليكما وعلى حضوركما اليوم أمامي في هذه المناسبة. أعمّم شكري هذا ليشمل أخواي منصور وجورج وعقيلتيهما سميرة وكاتيا وأولادهم. إنّهم ثروتي العائليّة التي أنهل منها عطفا وحنانا وفرحا.