إسرائيل تجاوزت الخطّ الأحمر ونحن بقينا على الأخضر

إسرائيل تجاوزت الخطّ الأحمر ونحن بقينا على الأخضر

تواصل القوات الإسرائيلية ارتكاب المجازر في قطاع غزة ومنطقة رفح بينما نواصل نحن تحذير حكومة بنيامين نتنياهو من “تجاوز الخطوط الحمر”. هل بقي هناك أيّ خط أحمر لم تخترقه تل أبيب؟ وكم عدد المرّات التي أعلنّا فيها أنّ القدس والأقصى وغزّة وغيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلّة خطوط حمر على إسرائيل؟ لكنّنا تركنا جيشها يدخل هذه الأماكن ويخرج منها كما يشاء وينتهك حرمتها وحصانتها دون أن نترجم تحذيراتنا وتهديداتنا إلى مواقف عمليّة؟

آخر ما بين أيدينا حول اختراق إسرائيل الخطوط الحمر هو الآتي:

– كشف الرئيس الأميركي جو بايدن عن “مقترح إسرائيلي” يمثّل خريطة طريق على 3 مراحل تتضمّن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن الأحياء وشكل إعادة إعمار قطاع غزة. ذكّره السناتور الجمهوري ليندسي غراهام خلالها بضرورة توضيح أنّ اقتراح وقف إطلاق النار المعلن لا يجوز أن يوقف تل أبيب عند أيّ خطّ أحمر يمنعها من مواصلة العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

– إعلان واشنطن أنّ الخطة المطروحة حول غزة هي في حقيقة الأمر وصفة إسرائيلية، بعدما أكّد ذلك المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي: “كان هذا اقتراحاً إسرائيلياً. نتوقّع أنّه إذا وافقت حماس على الاقتراح، كما نقل إليهم، فإنّ إسرائيل ستقول نعم عليه”.

نجحت واشنطن وتل أبيب في إسقاط ورقة “الخطوط الحمر” التي كان يرفعها ويتحدّث عنها الكثير من القيادات والأصوات في مواجهة إسرائيل

– أنّ حماس تتعامل هنا وكما قيل مع عرض سبق أن قدّمته قبل 3 أشهر وتعرضه تل أبيب عبر واشنطن هذه المرّة.

– مجاهرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقول إنّه “تزامناً مع جهود إعادة مختطفينا، نحتفظ بأهداف الحرب وعلى رأسها القضاء على حماس”. وكشف المتحدّث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد مينسر نقلاً عن نتنياهو أنّ الرئيس بايدن لم ينشر سوى بعض التفاصيل في أثناء طرحه خطة إنهاء الحرب على غزة، وأنّ نتنياهو سيُطلع شركاءه في الائتلاف الحكومي على مسوّدة الخطّة قبل قبولها.

– التريّث بانتظار أن تكشف حماس أيضاً عن تفاصيل الخطة بشكلها النهائي قبل مباشرة تنفيذها.

– تلويح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأنّ الوضع الإنساني في غزة مريع، لكنّ الإدارة الأميركية ستواصل إرسال الصواريخ الموقّعة من قبل منافسه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية وسفيرة واشنطن السابقة في الأمم المتحدة نيكي هايلي والتي تحمل عبارة “أجهزوا عليهم” قبل قيامها بمهمة قتل المدنيين في غزة.

– تكرار عبارة أنّ على المجتمع الدولي أن يتحرّك لوقف إسرائيل عند حدّها، ومحاولة زيادة عدد الدول التي تلتحق بطلب محاكمتها دوليّاً، والتحضير لمؤتمرات إقليمية جديدة ذات طابع سياسي وإنساني تهدف إلى بحث فرص إدخال المساعدات إلى الذين ينتظرونها في غزة أو على معابر رفح. إذاً من المبكر الحديث عن منتصر ومنهزم في ضوء ما قيل حتى الآن.

يقول بايدن إنّه إذا استغرقت المفاوضات أكثر من ستة أسابيع من المرحلة الأولى في الخطة، فإنّ وقف إطلاق النار سيستمرّ ما استمرّت المفاوضات

هدمت حكومة نتنياهو كلّ ما شيّد من اتفاقيات ومعاهدات في العقود الأربعة الأخيرة مع العديد من العواصم والأطراف. تذهب اليوم باتجاه فرض واقع قانوني وسياسي وديمغرافي جديد على غزة، مستقوية بهجمات 7 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم في غلاف المدينة. تريد تحويل الفرصة إلى جرّافة تجتاح كلّ المعادلات والتوازنات السياسية والأمنيّة الإقليمية التي تتعارض مع حساباتها ومصالحها. فهل ترى حماس في الخطّة الأميركية الإسرائيلية عند دخولها حيّز التنفيذ انتصاراً لها؟ وهل يكفيها أن تردّ ذلك إلى  أنّ نتنياهو وجيشه فشلا في تحقيق الأهداف المعلنة بعد هجمات 7 أكتوبر المنصرم في غلاف غزة؟

قد يكون وراء دوافع عرض الخطة الأميركية الإسرائيلية أكثر من سبب داخلي وخارجي انعكست سلباً على مصالح السلطات السياسية في البلدين. وقد يكون بين أسباب دفع القوة الشمالية والغربية لطرح خطة بايدن الأخيرة حراك القوة الجنوبية والشرقية التي كانت الصين وروسيا تدعمها بهدف تضييق الخناق على النفوذ والتمدّد الأميركيَّين في الشرق الأوسط. لكنّ واشنطن وتل أبيب لن تسمحا أن يتحوّل ذلك إلى انتصار سياسي وشعبي لحماس بمثل هذه السهولة.

خيارات حماس المحدودة

نجحت واشنطن وتل أبيب في إسقاط ورقة “الخطوط الحمر” التي كان يرفعها ويتحدّث عنها الكثير من القيادات والأصوات في مواجهة إسرائيل. التطوّرات تذهب باتجاه مغاير يحمل معه تساؤلاً: ما الذي ستفعله قيادات حماس وكيف ستتصرّف بعد قبولها العرض الإسرائيلي الأخير؟ خياراتها كما يقول نتنياهو محدودة بين قبول وقف إطلاق النار المصحوب بتمسّك إسرائيلي بتدميرها عاجلاً أو آجلاً، وبين سؤال: لماذا تقبل بعروض تقوم على وقف مؤقّت لإطلاق النار يواكبه كما يقال الإفراج عن عدد محدود من الرهائن والأسرى وعودة السكان الفلسطينيين إلى منازلهم مع رفع أرقام دخول شاحنات المساعدة الإنسانية لغزة إلى 600 شاحنة يومياً، وانسحاب إسرائيلي، لكن من المناطق السكنية وليس إلى حدود السابع من أكتوبر، ودون أية ضمانات أنّها لن تعود بعد إنجاز بنود الاتفاق المؤقّت الذي لا نعرف ما إذا كان يحمل معه أيّ نوايا حلحلة سياسية أو أمنيّة حقيقية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى مواصلة عدوانها؟

قد يكون وراء دوافع عرض الخطة الأميركية الإسرائيلية أكثر من سبب داخلي وخارجي انعكست سلباً على مصالح السلطات السياسية في البلدين

يقول بايدن إنّه إذا استغرقت المفاوضات أكثر من ستة أسابيع من المرحلة الأولى في الخطة، فإنّ وقف إطلاق النار سيستمرّ ما استمرّت المفاوضات. هدف أميركا هو إعلان “نهاية دائمة للأعمال القتالية” التي اندلعت قبل 8 أشهر، لكنّ الحرب بجميع أشكالها ستبقى مفتوحة حتى تحقّق تل أبيب كلّ أهدافها. ما يجري ربّما يذكّرنا باتفاقيات الهدنة الموقّعة مع إسرائيل عام 1949، والتي ما زالت قائمة على الورق حتى اليوم على الرغم من كلّ الخروقات والتجاوزات والحروب. فكيف ستتصرّف حماس هنا عندما تتحوّل المسألة إلى حرب استنزاف جديدة، خصوصاً أنّ بايدن يقول إنّه “إذا وفت حماس بالتزاماتها، فإنّ وقف إطلاق النار المؤقّت سيصبح وقفاً للأعمال القتالية بشكل دائم”، مع تذكير الجميع بمن فيهم قيادات حماس أنّ “صفقة إعادة إعمار غزة ستتمّ بطريقة لا تسمح لحماس بإعادة التسلّح”؟

بقدر ما ستتحوّل خطة بايدن حين دخولها حيّز التنفيذ إلى امتحان سياسي داخلي لواشنطن وتل أبيب، بقدر ما تترك حماس أيضاً أمام معضلة التعامل مع الكثير من التساؤلات حول كيف سيكون شكل الوضع في غزة صباح اليوم التالي؟ وهل تسهّل المراحل الثلاث المعلنة للخطّة إذا ما استُكملت بنجاح، الدخول في نقاش خطوات طريق السلام الحقيقي والدائم في ملفّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

رهان على العدالة الدولية؟

الرهان اليوم هو على “الخطّ الأحمر” الذي وضعه المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية وهو يطالب بمحاكمة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو كمجرم حرب بسبب ما ارتكبه من مجازر في قطاع غزة.

فهل يكون بمقدور حماس التعامل سياسياً ودبلوماسياً مع العواصم الغربية التي بدأت الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهي تعاني عزلة إقليمية ودولية؟ وكيف ستفعل ذلك وسط حالة الانقسام الفلسطيني ووضعها القانوني والسياسي الذي يحول دون أن توجد حول أيّة طاولة مفاوضات إقليمية تبحث الملفّ الفلسطيني؟

أسوأ ما في الأمر أن لا تحتاج إسرائيل إلى مسح الخطوط الحمر التي وضعناها لها لأنّها رُسمت أصلاً على ألواح من ثلج

على حماس أن تستعدّ لسيناريو أنّ بايدن وهو يعدّ نفسه لمعركة الانتخابات الرئاسية قد يتخلّى عن نتنياهو دون حدوث تداعيات على مكانة إسرائيل كما يردّد. لكنّه سيتمسّك بطلب إبعاد حماس عن المشهد الفلسطيني ليكون هناك توازن في ترتيب المعادلة أو الطاولة الإقليمية الجديدة حول الحلحلة في الملفّ الفلسطيني. كيف ستتعامل حماس مع سيناريو أميركي غربي إقليمي من هذا النوع؟

“ذاكرة” الخطّ الأخضر

يعود مصطلح الخطّ الأخضر في فلسطين إلى تفاهمات عام 1948 التي أعقبها بعد عام واحد رسم خطوط الهدنة سنة 1949 بين إسرائيل من جهة، والدول العربية المجاورة من جهة ثانية. اخترقت القوات الإسرائيلية بعدها الخطّ الأخضر أكثر من مرّة. سمعنا بتحذيرات كثيرة توجَّه لإسرائيل بعد ذلك حيال أكثر من بقعة جغرافية تهدّدها إسرائيل لكن دون نتيجة. المجازر التي تواصل ارتكابها تشير إلى أنّ تل أبيب غير عابئة بما يقال لها.

إ

يقول جون كيربي مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض إنّ حكومة نتنياهو لم تتجاوز الخطوط الحمر في غزة. خطوطهم كما يبدو هي غير خطوطنا، خصوصاً بعدما تداخلت الخطوط وتشابكت الخرائط واختلطت الحدود الجغرافية بتلك السياسية والأمنيّة.

أسوأ ما في الأمر أن لا تحتاج إسرائيل إلى مسح الخطوط الحمر التي وضعناها لها لأنّها رُسمت أصلاً على ألواح من ثلج. الكارثة الكبرى ستكون عندما يحلّ بنا ما أصاب نزار قباني وهو يرفع الراية البيضاء أمام جميلته التي اخترقت كلّ الخطوط الحمر وهو يسهّل لها المهمّة.

سمير صالحة ـ أساس ميديا