على الرغم من الإخفاقات المتكررة لمهمة مبعوثها الى بيروت، ترفض الديبلوماسية الفرنسية ان توقف مبادراتها الساعية لإحداث خرق في الأزمة الرئاسية، فما ان يغادر الموفد جان إيف لودريان حتى يعود، ومع ذلك لم يسجل أي تقدم بعد في الملف الرئاسي بسبب العقد الرئاسية الكبرى، وتمسك القوى الداخلية المؤثرة بموقفها، وهذا ما ظهر بوضوح في الزيارة الأخيرة للمبعوث الفرنسي، التي أفضت الى عودته خالي الوفاض مجددا.
همّ لودريان في لقاءاته اللبنانية ان الملف الرئاسي في جزء كبير منه” شأن لبناني”، وان حرب الجنوب لا علاقة لها بانتخاب رئيس للجمهورية، ولا تقف عائقا امام الاتفاق على الاستحقاق الرئاسي، وبالمحصلة عاد بالانطباعات السلبية كما في زياراته السابقة حول انقسام اللبنانيين، وبقاء كل فريق على موقفه الرئاسي .
ومع ذلك لا تتوقع مصادر سياسية ان تخف الاندفاعة الفرنسية، ولو كانت على طريقة ديبلوماسية “الخطوة خطوة” في الموضوع الرئاسي، ففرنسا لا تسعى فقط لحل المعضلة الرئاسية، بل تتطلع الى لعب دور استثنائي على الساحة اللبنانية وإثبات الحضور .
الاهتمام الفرنسي بالشأن اللبناني ليس تفصيلا عاديا، فمن المؤكد ان باريس تسعي للقيام بأدوار في بلد له مكانته الخاصة لفرنسا ،ربطا بموقعه الاستراتيجي والحيوي في المنطقة. ووفق المصادر السياسية “تحرص الإدارة الفرنسية كل فترة على تجديد حضورها، وإبقاء الملف اللبناني تحت السيطرة والمتابعة، كيلا ينتقل الدور الى لاعبين دوليين آخرين”.
مع ذلك، يعتقد كثيرون ان “زمن شارل ديغول انتهى” في اللعبة الإقليمية والدولية، فالإدارة الفرنسية ارتكبت اخطاء كثيرة، كما ان الفرنسيين في مأزق ولا يستطيعون إرضاء الافرقاء المتنازعين، واعطاء المعارضة او الممانعة الرئيس الذي يريدونه، وثمة تساؤلات طرحت قبل فترة عن الانحياز الفرنسي الى فريق معين، مع حصول تبدل جوهري في النظرة الفرنسية الى الملف اللبناني، وانتقال باريس الى الاهتمام بأولويات تأمين مصالحها واستثماراتها ومشاريعها، على حساب علاقتها بالمسيحيين وما يريده المجتمع المسيحي.
واكدت المصادر ان الفرنسيين مؤخرا على تنسيق وتواصل مع الأطراف الممسكة بالقرار السياسي في لبنان، ومصلحتهم التقرب من الطرف الأقوى والأكثر تأثيرا في لبنان، بدلا من المسيحيين الغارقين في خلافاتهم. لكن الممسكين بملف العلاقة اللبنانية – الفرنسية يؤكدون عدم صحة هذه النظرية بالقول، ان باريس تسعى لإقامة توازن عادل بعلاقتها مع كل الأطراف، وان التدخل الفرنسي حصل في السنوات الأخيرة لمساعدة لبنان في المحن الأمنية والاقتصادية والاجتماعية منذ انفجار مرفأ بيروت وحضور الرئيس ايمانويل ماكرون الى لبنان، وفي مسار المساعدات لسباق الخيل والمرفأ، فضلا عن الحضور الفرنسي في قوات “اليونيفل”، ودعم التعليم.
ويقول هؤلاء: لطالما وقفت فرنسا الى جانب لبنان في المواضيع الانسانية والثقافية والاجتماعية والصحية، وعززت صمود المسيحيين فيه، كما فتحت جامعاتها لاستقبال الطلاب، وفتحت باب التوظيف. اما سياسيا، فان جولات لودريان تتحدث عن نفسها، حيث تحرص الإدارة الفرنسية على تقريب وجهات النظر، وهي بالتأكيد لا تقبل تسوية رئاسية تثير التفرقة والخلافات اللبنانية، ولن تسير بتسوية تستفز المسيحيين ولا يوافق عليها “الثنائي الشيعي”.
التحذير الذي أطلقه لودريان عشية مغادرته لبنان، ليس القصد منه ترويع اللبنانيين، فهو تحدث بوضوح عن احتمال زوال لبنان السياسي وليس الجغرافي، بغرض حث المسؤولين على انتخاب رئيس جمهورية قبل فوات الأوان، لان لبنان ينهار والمؤسسات معطلة، والوقت ليس لمصلحة لبنان إقليميا في ظل المتغيرات وأحداث المنطقة.
(الديار)