عقد “التجدد للوطن” مؤتمره الثاني بعنوان “من لبنان الساحة…الى لبنان الوطن”، بدعوة من رئيسه شارل عربيد في واجهة بيروت البحرية Seaside Pavillon، بحضور بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الوزراء في حكومة تصريف الأعمال علي حميه، جوني القرم وهنري خوري، نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، النواب: تيمور جنبلاط، علي فياض، الان عون، الياس حنكش، نعمة افرام، مروان حمادة، هادي أبو الحسن، فيصل الصايغ، بلال عبد الله، ميشال موسى، راجي السعد، نديم الجميل، اشرف بيضون، أكرم شهيب، الوزير السابق غازي العريضي ممثلا النائب والوزير السابق وليد جنبلاط، محافظ بيروت مروان عبود وعدد من الوزارء والنواب السابقين والسفراء والشخصيات الدينية والأمنية والقضائية.
بعد كلمة ترحيبية لعريف اللقاء بسام ابو زيد، ألقى عربيد كلمة قال فيها: “في الزمان، نلتقي في لحظةٍ جديدة، لا تشير إليها الساعات والتقويمات، بل الأحداث والاستحقاقات والتحولات، وما تمليه من ضرورات وواجبات. وفي المكان، نلتقي في ساحة الوطن، لا في مكان جغرافي، بل في مساحة الانتماء للبنان. نسميها ساحة الوطن، التي تجمعنا حول رفض الوطن الساحة. وعلى تقاطع هذين البعدين، يأتي هذا اللقاء الجامع، الذي ندرك معه أن لبنان لا تنقصه اللقاءات والاجتماعات وصنوف عروض الكلام وحسن البيان والتعبير. بل تنقصه الأفعال المبنية على إرادات واعية وصافية وعارفة بمكامن الأمراض وعلاجاتها، وبمواضع الثغرات وإجاباتها. لذلك، نحدد أولاً طبيعة المناسبة، بأنها وطنية جامعة تتجاوز الصفة المذهبية للتجدد للوطن المنطلِق من مكون لبناني تاريخي، وخارج الاصطفافات التقليدية للطوائف والأحزاب، إلى أفق تتحول فيه المكونات إلى معززات للوحدة، لا بواعث قسمة. وهذا ما كان العنوان الأساسي للمؤتمر الأول للتجدد للوطن، حيث استعرضنا إسهام الروم الكاثوليك في إرساء المساحة الوطنية اللبنانية. ثم نحدد طبيعة اللحظة واستحقاقاتها، بأنها لحظة أزمات متنوعة ومتراكمة، في سياق تحولات عالمية وإقليمية شديدة الخطورة، تضع لبنان أمام خطرٍ وجودي كبير، أو أمام فرص كبيرة”.
أضاف: “مع هذه الاستحقاقات، تراجعت أزماتنا الداخلية العميقة والتاريخية لتتوارى خلف هول الحرب الإسرائيلية المجنونة على غزة، وانعكاساتها في الجنوب اللبناني بسلسلة مستمرة من العدوان الذي يفاقم من أزماتنا، ويوسع من مشكلاتنا الاقتصادية والأمنية والدفاعية والسيادية… وفي الداخل، تبقى الأزمات الاقتصادية والمالية، والتعثر المؤسساتي بخلو سدة الرئاسة ومواقع أخرى كثيرة غيرها، وفقدان الثقة بالدولة، لتهدد قوتنا الجمعية، ودولتنا بمكوناتها كافة. من هنا، أردنا أن يكون: لبنان وطناً لا ساحة، ومساحة تفاعل حضاري ونمو معيشي، وليس ميدان صراع وملعب مواجهات في ظل كل تلك الظروف المحيطة من قرب ومن بعد. نحاول هنا استعادة الثقة بالدولة، من الداخل ومن الخارج. وذلك يكون في رأينا من خلالنا جميعاً، رجالات هذه الدولة وقياداتها، وقواها الفاعلة. من باب الأمانة الموكولة إلينا عن مصائر الناس ومستقبلهم”.
وتابع: “الضرورات اليوم من منطلق فرادة هذا الوطن في الشرق وفي العالم هي: لنستعد الثقة بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة من الاختصاصيين الأكفاء، لنتوجه إلى المانحين والجانب السوري لمعالجة قضية النزوح حتى لا نظلم النازحين ولا نفرط بلبنان ايضا، لنرفض التجزئة والتقسيم، لنرفض منطق الغلبة في لبنان الذي يفقد توازنه بغلبة فئة على أخرى، لنتمسك بقاعدة أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، لنؤكد تمسكنا بالدستور وبالطائف، وبرفض أي صيغة أخرى للبنان، لنلغ منطق الساحة الذي لا يجلب سوى الأزمات والانقسامات وليس بناء الأوطان، لنطلب الحياد في إطار المنظومة العربية، لنركز جهودنا باتجاه الفعل والإنجاز لحماية التجربة اللبنانية التي ندرك قيمتها ونعلم مميزاتها وفرادة حقيقتها ولننبذ كل ما يؤدي إلى ذوبانها في فضاءات التجارب الأخرى، لنؤكد دعمنا للقضية الفلسطينية التي عادت من خلال غزة إلى واجهة التأثير في قضايا المنطقة كلها مع بحث موقعنا في هذه القضايا ودورنا المفيد للبنان والحامي لاستقلاله ودوره، وتثمين مساهمتنا في سبيل القضايا المحقة، لنتمسك بقيام دولة فاعلة وجاذبة للفرص ترشّد حكمها ليكون في خدمة بنيها وضرائبها لتكون دافعاً لخدماتها، لنصر على قيام الدولة الراعية لأبنائها والحاضنة لهم دولة متّقدة بالعلوم والفكر ومتطورة وعصرية ومتحركة مع التاريخ وحركة الإنسان في العصرنة والناظرة بأمل إلى المستقبل، لنتطلع إلى دولة مستقرة اقتصادياً وإجتماعياً وأمنياً ونشطة لامركزياً في كنف سلطة مركزية معافاة وقادرة على الاستجابة السريعة للتحديات في مركزها وأطرافها وسيدة في داخلها وعلى حدودها”.
وقال: “لنعمل على إعادة خلقِ مجتمع يعيش فيه أبناؤُهُ مواطنينَ لا رعايا ، يجمعهم عيش واحد، يتفاعلون فيه وسط بيئة من العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات. نحن إذ نقول أن العيش المشترك في لبنان حتى لا يتصدع، يجب أن يُصان بالدولة الضامنة والحامية والعادلة عبر مؤسساتها المختلفة وبخاصة عبر القضاء الذي يجب أن يكون الضامن الأول في دولة الحق. ونؤكد أن أولى ركائز بناء الدولة التي نريد، يبدأ بالولاء للبنان كوطنٍ أوحد لنا جميعا، بعدما عانى بلدُنا لعقود من الولاءات الخارجية التي تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح لبنان وشعبه. وإذ نقول بالحياد نعني به حِيادًا يجنّب لبنان صراعات لا مصلحة له بها، وليس أن نحيّده عن مصالحه وأمنه واستقراره.وحتى اليوم، نعلم أننا فشلنا في إقامة مشروع دولة ، تعوّد ناسها وحكامها على قبول عجزها”.
وختم: “جئنا لنقول إننا من منطلق هويتنا الشريكة في لبنان منذ نشأته وعلى مدى مستقبله، بدأنا طريق الجلجلة لخدمة وطننا، مدركين المصاعب والعقبات، وقابلين بالدور الذي تفرضه علينا. ومنفتحين على كل أخوتنا وداخلين من باب المكون الشريك إلى ساحات لبنان كلها واحةً لاستعادةِ أبنائه وإعادةِ بِنائه، لا ساحة … للآخرين”.
العبسي
وألقى العبسي كلمة قال فيها: “بسرور كبير نلتقي اليوم في مؤتمر وطنيّ دعا إليه “التجدّد للوطن”، مريدًا به أن نخطو معًا خطوة أخرى جديدة في مسيرة هذا التجدّد الذي انطلق من سنتين خطا في أثنائهما خطوات ثابتة ناجحة نحو الهدف المقصود، نحو الوطن المشتهى. “لا تحتقرنّ إلهًا يعبده غيرك”. هذه العبارة المنقوشة على رقيم فخّاريّ في إيبلا من مدن سورية القديمة، من الألف الثالث قبل الميلاد، في مجتمع متعدّد الآلهة، قد أوقعتني، أنا ابنَ القرن العشرين والحادي والعشرين وابن ديانة موحّدة، وقد تكون أوقعت أيضًا غيري ممّن قرأها أو سمعها، هذه العبارة أوقعتني في تساؤل: أين نحن، أبناء الديانات التوحيديّة، من هذه الكلمات؟ هذه الكلمات التي مختصرها أنّ آباءنا وأجدادنا كانوا يدينون بديانات متنوّعة يشهد التاريخ عليها وما خلقت لهم مشكلة. لم تكن ديانة الواحد تمنعه من أن يعيش بسلام ووئام وطمأنينة وثقة مع الآخر جاره، لا بل كان البعض يتبنّى إلهًا أو آلهة من غير ديانته فيضيفها إلى آلهته ويتعبّد لها بارتياح. ما كان الدين حاجزًا بين الناس أو سببًا لخلاف أو تباعد. لكن يبدو أنّ تلك الأيّام ولّت مع الزمن بانبعاث فكر التوحيد في الدين فحلّ محلّ التعدّديّة فكانت الديانات التوحيديّة التي لا يقبل أتباعها بغير دينهم: “أنا هو الربّ إلهك لا يكن لك إله غيري” يقول اليهود والمسيحيّون، و”لا إله إلًا الله” يقول المسلمون. لكنّ لبنان تجاوز هذه المسألة إذ قد ورد في دستوره عام 1926 في المادّة التاسعة إنّ “حرّية الاعتقاد مطلقة”.
أضاف: “في تأسيس الأوطان واستمرارها عناصر متنوّعة تجتمع كلّها أو بعضها يتألّف باجتماعها الوطن: الشعب واللغة والجغرافيا والتاريخ والتقاليد والثقافة والدين، إلخ… لكنّ ما يؤسّس الوطن فوق كلّ هذه العناصر هي الإرادة. أن يكون لجميع الأفراد على تنوّعهم الإرادة لبناء وطن واحد لهم جميعًا هذه صفاته يعيشون فيه مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ينعمون بالكرامة والسلام والازدهار والحرّيّة. هكذا نشأ لبنان الكبير المعاصر بفعل إرادة مجتمعة من جميع الأطراف التي كانت قائمة على أرضه، ويستمرّ حتّى الآن بفعل إرادة منّا جميعًا. مررنا بأزمات كبيرة وكثيرة حتّى إنّنا بتنا في بعض الأحيان نضع الوطن موضع شكّ. الأوطان ليست حصيلة أمنية بل حصيلة إرادة ولدينا في العالم نماذج عنها قامت على الإرادة المشتركة بالرغم من الصعوبات الكثيرة التي واجهتها”.
وتابع: “في الحديث عن العناصر التي يتأسّس منها الوطن، للبنانَ عنصرٌ خاصّ هو ما نستطيع أن نسمّيه التوافقيّة الطائفيّة، توافق الطوائف والمذاهب التي يتألّف منها لبنان على العيش معًا في وطن واحد لكنّ الخطر الكامن الدائم في هذه التوافقيّة الطائفيّة هو أن تنقلب إلى فكر طائفيّ بحيث لا تعود توافقًا بل تباعدًا، بل هدمًا للدولة حاضنة المجتمع التي لا يمكنها العيش لا هي ولا المجتمع بدون مؤسّسات وأنظمة وأعراف. بعد أن نكون أنشأنا وطنًا ننزلق إلى أن ننشئ مقاطعات إو إمارات أو ساحات. النظام الطائفيّ شيء والفكر الطائفيّ شيء آخر. النظام الطائفيّ مشروع انفتاح وتقبّل للآخر وإثراء، أمّا الفكر الطائفيّ فهو مشروع انكماش وتعصّب ورفض للآخر وفقر. النظام الطائفيّ يسعى إلى أن يكون الوطن بخير وينشّئ على التفكير والعمل الجماعيّ، أمّا الفكر الطائفيّ فيسعى إلى أن تكون المصلحة الشخصيّة مؤمّنة وينشّئ على التفكير والعمل الفرديّ. قد يكون الأفضل أن نتخلّى عن النظام الطائفيّ وقد يكون ذلك حلمًا عند البعض أو مطلبًا عند البعض الآخر، إنّما إلى أن يتحقّق الحلم والمطلب علينا ألّا ننساق إلى الفكر الطائفيّ الذي يقود في رأينا إلى الانتحار عاجلًا أو آجلًا وألّا نزرعه في عقول أبنائنا وقلوبهم. أضف إلى أنّ التجربة اللبنانيّة لا يكتمل نجاحها سوى بصونها من الداخل ومن الخارج. من الداخل بتمتين الوحدة والوفاق الذي صار له مرتبة دستوريّة بموجب وثيقة الوفاق الوطنيّ، ومن الخارج بالعمل على إبعاد لبنان عن الصراعات”.
وقال: “نحن الرومَ الملكيّين الكاثوليك، انطلاقًا من تاريخنا الوطنيّ والكنسيّ والاجتماعيّ، ومن كوننا أصلًا من أصول لبنان، نتكلّم ونعمل من خلال النظام الطائفيّ ما دام قائمًا إنّما بفكر غير طائفيّ، لأنّنا نؤمن بالوطن رسالة، رسالة للشرق والغرب كما وصفه البابا القدّيسُ يوحنّا بولس الثاني، ونموذجًا يُحتذى به. كنيستنا كنيسة اللقاء، ننتمي إليها ولا نتعصّب لها، طائفيّتها أن تغتني الطوائف بعضها ببعض لا أن تستغني بعضها عن بعض، أن تتقابس وتستنير بعضُها من بعض، أن تفرح وتفتخر بعضها ببعض، لا أن تكون الطوائف حواجز وجدرانًا ومباعث ريبة وخوف وحذر وانزلاق إلى الاستقلال الفرديّ إن لم يكن إلى التخلّي بعضُنا عن بعض”.
وختم: “هل من الضروريّ القول في الختام إنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو بداية استعادة الثقة بعضُنا ببعض وبلبنان؟ إنّه الخطوة على طريق العودة الى حضن الوطن. أيّها الحفل الكريم، للمؤتمرات الوطنيّة طريق تقود إليها من لا يسلكُها لن يجد الوطن”.
الراعي
وكانت كلمة للراعي قال فيها: “المقاطعة الناتجة عن عدم الثقة بين اللبنانيين هي سيدة الموقف اليوم، ولذلك لا يجرؤ احد على المبادرة الى فتح حوار وطني صريح وصادق يتفوّق على كل المصالح الشخصية والفئوية، وكذلك لا يرى احد جدوى من تلبية دعوة الى حوار لا يغوص جدّيًا في جوهر نقاط خلافية تراكمت حتى تحولت الى قنابل موقوتة. أما آن الاوان لنكون رجال دولة حقيقيين لا نقيم اعتبارًا الا للبنان السيد الحر المزدهر، لبنان الرسالة والنموذج للشرق كما للغرب، فنبادر فورًا الى انتخاب رئيس للجمهورية يقود حوارًا وطنيًا مخلصًا للبنان يعيد الثقة ويضعنا على السكة الصحيحة لترسيخ الاستقرار ولاعادة البناء على الصعد كافة، وابرزها السياسية والمالية والاقتصادية والقضائية والامنية”.
أضاف: “لعبت التأثيرات والمصالح الخارجية عام 1975 على التناقضات داخل الساحة اللبنانية فجعلت من لبنان ساحة عبثية للفوضى ولتصفية الحسابات ودفعت ببعض الفئات الى توسيع احلامها واطماعها والرهان على قوى خارجية وعلى انتصارات وهمية سرعان ما تبيّن انها لم تكن سوى خوضًا في المجهول لا بل انتحارا حوّل لبنان الى ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات الهدامة”.
وتابع: “بعد نهاية تلك الحرب المشؤومة عادت اللحمة الى النسيج اللبناني ليعود مشروع الدولة وبناء المؤسسات الى الواجهة برغبة ظهرت صادقة من قبل معظم الفئات اللبنانية، ولكن هذا المشروع واجه العديد من الصعوبات والتحديات وكان له المتضرّرون من قيام الدولة بالمرصاد سواء من الخارج أم من الداخل. نَشأَت في الأوساطِ اللبنانيّةِ “كانتونات” مُغلقةٌ تُمارس حياتَها الخاصّةَ والعامّةَ بمنأى عن المجتمعِ اللبنانيِّ الفسيح. إنها “كانتوناتٌ اجتماعيّةٌ” تتداولُ في كيفيةِ تسييسِ ذاتِها وإعطائِها حالةً شرعيّةً. لكنَّ الفرقَ شاسعٌ بين كانتونات النوادي المغلَقةِ وبين الكانتوناتِ الدستوريّة”.
وقال: “أمسى لبنان بلدًا طبقيًّا من دونِ صراعٍ طبقيٍّ. فئاتُه الاجتماعيّةُ كَوَّنت طَبقاتٍ ذاتيّةً تُمارسُ نمطَ حياةٍ خاصًّا من دونِ أن تتصارعَ اجتماعيًّا وأمنيًّا، ولا حتّى سياسيًّا. وحين انتفضَ الشعبُ وتَظاهرَ وقَطعَ الطرقاتِ من أجلِ تحسينِ شروطِ حياتِه اليوميّةِ، إِنما انتفَضَ ضِدَّ لا أحدَ، وضِدَّ عناوينَ مغلوطة. وحين اختارَ في الانتخاباتِ مُمثلِّيه غالِبًا ما اختارَ الأسماءَ المغلوطةَ أيضًا. إذا كانت هذه الأفكارُ تراودُ البعضَ فلأنَّ لبنان كان ـــ على شوائبِه ـــ بلدَ النهضةِ وباتَ بلدَ الانحطاط، وكان بلدَ البحبوحةِ وأصبحَ بلد البؤس، وكان بلدَ الحريّةِ وصارَ بلدَ الفوضى. كثُرت في الآونِة الأخيرةِ طروحاتٌ دستوريّةٌ مختلفةٌ من أجلِ إيجادِ صيغٍ دستوريّةٍ تُعيد الأملَ إلى الحياةِ في لبنان من دون أن تقضيَ على كيانِ لبنان. تَعتقد هذه الفئاتُ أنّها صَبرت كثيرًا على الصيغةِ القائمةِ وأعْطَتها جميعَ حظوظِها، فيما فئاتٌ أخرى، من كلِّ الطوائفِ أيضًا، تَعتقدُ أنَّ المراحلَ الصعبةَ باتَت وراءَنا والصيغةَ الحاليّةَ ستَستعيدُ تألّقَها، ولا داعٍ بالتالي للبحثِ عن صيغٍ جديدة. لكن سَها عن بالِ هؤلاء أنَّ تألُّقَ الصيغةِ اللبنانيّةِ يَتعذّرُ بمنأى عن انتظامِ الاستقرارِ السياسيِّ والأمنيِّ والكيانيِّ في سائرِ دولِ الشرقِ الأوسط. تَطوّرُ المجتمعِ اللبنانيِّ جاء متنافِرًا. فئاتٌ كانت بعيدةً عن الفكرةِ اللبنانيّةِ صارت تُدافعُ عنها، وفئاتٌ أخرى كانت قريبةً منها ابْتعدَت عنها. تَجاهَلتْها وتَجهّلَت، والتحقت بأفكار أخرى لا تَـمُتُّ إلى الفكرةِ اللبنانية، حتى باتَ التوفيقُ بينهما مستحيلًا. الحلولُ التي يَقترحُها اللبنانيّون للبنانَ الجديدِ يَرتابُ أصحابُها في نجاحها لأنَّ المجتمعَ اللبنانيَّ صار عَصِيَّا على الحلول وأليفًا على المشاكل، ولأنّهم يَطرحونَها تحت وطأةِ الأحداث. اسْتأنس اللبنانيّون التنقّلَ من أزْمة إلى أخرى كأنَّ الأزَماتِ أهونُ من الحلول. الحلولُ الوطنيّةُ مُعقّدَةٌ، والحلولُ الفئويّةُ ليسَت موضوعَ إجماع”.
أضاف: “الإشكاليّةُ الكبرى في المجتمعِ اللبنانيِّ أنَّ العناصرَ التأسيسيّةَ التي تكوّنُ “أمّةً” – وهي الشعبُ والتاريخُ والجُغرافيا واللغةُ والحضارةُ و/أو الثقافةُ – هي العناصرُ الخلافيّةُ التي تُفرّقُ بين اللبنانيّين. فأطرافٌ لبنانيّةٌ، متأثِّرةٌ بالمحيط، اخْتزلَت جميعَ العناصرِ التأسيسيّة للأُمَة بالدين ثم بالمذَهب وقَضَت على مفهومِ الأمّةِ الحضاريّةِ اللبنانيّةِ وجَرَفت في طريقِها مفهومَ الدولةِ/الكيان. لا قيمةَ لأيِّ أمّةٍ أو دولةٍ ما لم تُوفّر للشعبِ السلامَ المستدامَ والحرّيةَ والكرامة. وهذه الفضائل هي ثمرة إرادةِ الحياةِ المشتركةِ قبل أن تكونَ حصيلةَ الدستورِ والقانون”.
وتابع: “تَغيّر نسيجُ المجتمعِ اللبناني حضاريًّا ومناطقيًّا. لم يَعُد لبنانُ نسيجَ ما قبلَ سنة 1975، ولا نسيجَ إفرازاتِ حربِ السنتين، ولا نسيجَ كانتونات الثمانينيات، ولا نسيجَ اختلاطِ تسعينياتِ القرن الماضي. ومن هنا تَتعقّدُ عمليةُ انتخابِ رئيسِ الجمهوريّة لأنَّ القوى السياسيّةَ تظنُّ بأنَّ الرئيسَ الآتي سيكون ناظمَ إعادةِ صياغةِ لبنانَ الجديد، ولا بدّ من وضعِ شروطٍ مُسبَقةٍ عليه. البعضُ يريد رئيسًا يأتي ليكُمِلَ، وآخرون يريدون رئيسًا ليَنقضَ. لكنّنا في الحقيقةِ نريد رئيسًا ليُغيّرَ ويخلقَ بيئةً وطنيةً جديدةً نظيفةً، وسلوكًا أخلاقيًّا، والتزامًا بالثوابتِ التاريخيّةِ، وبعلاقاتٍ إيجابيّةٍ مع العالم، ويَضعَ حدًّا للتبعيّةِ وتَشتيتِ الشرعيّة، ومقاربةً جديدةً للمشاكلِ ويُطلقَ سَراح اللبنانيّين”.
وقال: “كانت فكرة البطريرك الياس بطرس الحويّك الثابتة والعاملة إنشاء لبنان الكبير بكامل أرضه مسترجعًا المناطق التي سلختها عنه الولاية العثمانيّة، غير آبهٍ بتركيبتها السكّانيّة، إذ كان يعتبر الإنتماء إلى لبنان بالمواطنة لا بالدين. وهكذا فصل الدين عن السياسة في لبنان حتى يومنا. مع البطريرك أنطون بطرس عريضه، من إعلان دولة لبنان الكبير إلى محطّة الإستقلال، إستمرّ موقف البطريركيّة ثابتًا على خيار لبنان الوطن بمفهوم دولة المؤسّسات القادرة والعادلة. مع البطريرك بولس بطرس المعوشي إستمرّت البطريركيّة في ثباتها على خيار الوطن-الدولة. كما رفض البطريرك إتفاق القاهرة سنة 1969، وانحاز إلى مشروع الدولة. مع البطريرك أنطونيوس بطرس خريش إستمرّ صوت البطريرك يرفض كلّ الطروحات المسيحيّة والإسلاميّة والحرب في إندلاع، منحازًا لمشروع الوطن الدولة. مع البطريرك نصرالله بطرس صفير ظلّ يغلّب لبنان الوطن على لبنان الساحة. ومعنا نحن يستمرّ خيار لبنان الوطن الدولة”.
وختم: “ليس أمامنا سوى خيار واحد وهو الدولة-الوطن الذي يجب العمل من أجله والتفاني في سبيله، وفي سبيل وجهه المتألّق عبر المئويّة الأولى لتكوينه”.
جلستان
وبعد جلسة الافتتاح عُقِدَت جلستان، الأولى بعنوان “لبنان في ظل النظام الاقليمي الجديد” تحدث فيها النائب علي فياض والوزيران السابقان غازي العريضي وابراهيم نجار وأدارها الصحافي غسان حجار.
والجلسة الثانية بعنوان “ليعود لبنان جاذبا مستقرا” تحدث فيها نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، الوزيرة السابقة ريا الحسن، وداود الصايغ وأدارها الزميل موريس متى.