
” الشعب السالك في الظلمة ابصر نورا عظيما” (اشعيا ٩-٢)
وقد اشرق نوره من الغرب هذه المرة، ليلاقيه الشرق بقناديل مفعمة ايمانا وبهجة، تغالب الظلمة، وقد خبا نورها، وشح زيتها، وحجب الضباب اشعاعها والرؤى.
يُطل نائب المسيح على ارض وطأتها قدما المعلم، في زيارة حج هي الاولى لكبير “حجاج الرجاء”، حاملا معه الى هذه الارض سلاما تاقت اليه، والى ابنائها رجاء لن يخيّب اصحابه، ليعيدهم الى صفاء دعوتهم التاريخية، في صناعة السلام، وعيشه، واعلانه “امام الله والناس”.
انه البابا لاوون، من حمل في اسمه ارث صاحب ” الشؤون الحديثة”، وشغفه باحوال الكادحين والفقراء، ومن جسّد في تنشئته الاوغسطينية “حبه للجماعة وعطشه للحقيقة ورعايته الواعية لشعب الله”- وفق وصف رهبانيته له اثر انتخابه- وهو من عزم على اكمال توجه اسلافه في امور شتى، وابرزها التعبير عن اهمية رسالة هذا ” الوطن الرسالة”، بواقعه وموقعه، وبالدور الذي دعاه اليه الرب ليكون له شاهدا” في اورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وحتى اقاصي الارض”(ا.ع ١-٨)
البابا لاوون، في زيارته الى لبنان، يجدّد مع شعبه فعل ايمانهم بدورهم الاصيل، ويسير معهم في هذا الزمن السينودسي، في رحلتهم المستمرة نحو السلام الدائم، القائم على الحقيقة والعدالة، والمحصّن بالسيادة والحرية، بعيداً عن المحاور، والمكلّل بالقيم التي استقوها من تعاليمهم السماوية؛ ولعل ممارسة تلك القيَم التي رسختها تقاليدهم المجتمعية النبيلة، ونضالاتهم السميا، تتطلب ، من حين الى آخر، صيانة او اعادة تأهيل ، كي ترّكز فيهم، من جديد، معنى الانتماء، وقيمة الوحدة، واهمية الصمود وسط الضيقات، وتعزّز في نفوسهم فضائل المحبة والتضامن، والتطلع معا نحو وطن سيّد، واحد ، ضابط الكل.
هذا الوطن الذي ارتضاه اهله بيتا يجمعهم، وحصناً لوحدتهم، وعريناً لكرامتهم، ومنطلقاً لتطلعاتهم، لن يرتضوا له يوما- انّى كانت ظروفهم او ظروفه- ان يكون جدرانا بلا سقف، متروكا لعصف الرياح، او جريحاً نازفاً على “طريق اريحا”، ينتظر “سامرياً صالحاً”يتولى أمره، اذ ان فيه قوة ذاتية فاعلة، ووزنات كثيرة، آن لنا، ولدولتنا، ولكنيستنا، ان نعمل كلنا على تثميرها وتطويرها…
نقرا في زيارة الحبر الاعظم – المختلفة، في جوهرها و”نقاوتها” وابعادها عن زيارات سائر الموفدين، بحيث انها “تحمل الينا سلاما لا كما يعطيه العالم” (يو ١٤-٢٧) – علامة جديدة من “علامات الأزمنة” التي وضعها الرب امام شعبنا، ودعوة الى وقفة روحية ووجدانية، و الى اعادة قراءة نقدية ومسؤولة، نثمّن فيها غنى الرسالة المسلّمة الينا، ونصغي الى صوت الرب ان “اذهبوا الى العمق”، حيث الجوهر الذي عنه تبحثون، وما احوجنا الى ذلك في زمن تكاثرت فيه القشور، وبتنا اسرى التفاصيل المسطّحة، والهوامش الهشة.
ان في مواقف البابا المرتقبة توجيهات تكمّل “الرجاء الجديد للبنان”، وتؤكد دور لبنان “الشركة والشهادة”، وحاجته الوجودية في المنطقة والعالم؛ ولعل قداسته يعيد رسم خريطة طريق وضع ملامحها قبله سلفاه، يوحنا بولس وبندكتوس، واكدها سلفه المباشر فرنسيس، الذي يشارك من عليائه في زيارة شوق تاقت اليها نفسه…
يبقى ان في زيارة الحبر الاعظم الى لبنان، الصافية والمتجردة، دعوة لنا متجددة ، تتخطى مظاهر الترحيب وكلمات الاطراء، وتلحّ علينا كي نبادر ونُقدم، وفي البال قول من رسالة يعقوب “ان الكلام بدون اعمال باطل” (٢-٢٠)، ذلك ان في الفعل والتفاعل تحقيقا لرسولية الزيارة، ومساهمة جديّة في بلوغها المرامي المنشودة؛ وقد تكون من الفرص النادرة لأنتقالنا ووطننا وكنيستنا من الانتظار الى الحقيقة، و من المعاناة الى التعافي …
ان التحوّل ضرورة كم نحتاج اليها، وإن لم يكن لنا غداة الزيارة يوم جديد، فقد لن يكون لنا ايام جديدة اخرى.
د. انطوان سعد
محام واستاذ جامعي
باحث في الشؤون الكنسية



