الاستقالة منذ زمن العميد ريمون إدّه اصبحت نادرة والتخلي عن المنصب قوة لا يمتلكها إلّا الرجال- بالمعنى الإنساني وليس الذكوري. وفي هذه الواقعة خير تعبير: في العام 1966 وعلى أثر انهيار بنك إنترا، إمتثلت حكومة الرئيس عبدالله اليافي أمام المجلس النيابي المنتخب في العام 1964 للمساءلة والمحاسبة، وتولّى الرئيس اليافي المرافعة مشددّاً على أنّ حكومته تعمل ليل نهار لمعالجة ذيول هذه الكارثة التي حلّت بلبنان. طلب النائب أديب الفرزلي الكلام وقال لرئيس الحكومة:” كنّا نودّ يا دولة الرئيس لو وصلتم الليل بالنهار للحؤول دون وقوع هذه الكارثة الوطنيّة، أمّا وقد وقعت فلا لزوم بعد لمزيدٍ من الكلام، ثم التفت الفرزلي إلى النواب وقال لهم:” أنظروا إلى هذه الحكومة، إنّها ليست على مستوى الاستقالة”. فصفّقوا له طويلاً.
نعم، الاستقالة أحيانا من شيم الرجال والنساء أيضاٍ فليس كلّ الرجال والنساء يستقيلون حين يخفقون. فعلها العميد ريمون إدّه، حين استقال من الحكومة، إثر اعتداء إسرائيل على مطار بيروت،واستمرّ معارضاً مدى حياته. وكان الجميع يخشى من أن يطالهم تصريح من تصريحاته اللاذعة التي تسمّي الأمور باسمها. كان رجل مبادئ من الدرجة الأولى مع الحليف ضد الخصم ومع المبادئ ضد الحليف.
أين هم مسؤولو ووزراء اليوم من هذه المبادئ؟ ماذا ينتظر وزراء البيئة والسياحة والثقافة لتقديم استقالاتهم بعد الفضيحة التي شوّهت سمعة لبنان في مغارة جعيتا؟ ماذا سيفعلون بل ماذا يستطيعون أن يفعلوا غير تقاذف المسؤوليات مع البلدية؟ وزراء ومسؤولون، معظمهم ليس في مكانهفمكانهم في عالم الاعمال فيما المطلوب رجال دولة. كلّما ضاقت بهم المسؤوليّات، يلجأون إمّا الى الشاشات وإمّا إلى السفر لدواعٍ عائليّة أو صحيّة، وإذا اشتدّ بهم الخناق، يسرعون إلى تأليف لجان فتموت المشاريع وتبقى اللجان. كلمة شفافيّة أفرغوها من مضمونها حتّى أنّنا لمسناها مؤخّراً في بعض التعيينات الخالية إلّا من الفشل وانعدام المؤهّلات.
مع هؤلاء سيبقى لبنان مأساة- ملهاة. تارةً تبدو الحالة فيه مأسويّة وتارةً أخرى “مسخرة”. مرّة تختصر قضيته الكبرى باسترداد الدولة هيبتها لتعود ملح الأرض، ومرّةً أخرى تنزل إلى مستوى النفايات. وشعبٌ يغفو في سباتٍ عميق.



