تتجدّد ذكرى شهداء “القوات اللبنانية” اليوم كما في كل عام، وهي ليست مناسبة حزبية ضيّقة بل باتت محطة وطنية جامعة تعيد التذكير بمعنى الاستشهاد في سبيل قضية لبنانية، حيث إرتفع آلاف الشهداء على مذبح لبنان ليصيروا مشاعل على درب الحرية ولتتحوّل دماؤهم إلى عهد لا ينقطع وإلى مسؤولية تاريخية تقع على عاتق من حمل الراية من بعدهم.
وفي زمن يكثر فيه التخوين وتهميش أدوار باقي الأحزاب اللبنانية في الدفاع عن لبنان واحتكار انتقائي للكرامة وللتضحيات من قبل “حزب الله” وتحويل “المقاومة” إلى ملكية خاصة، فإن شهداء “القوات اللبنانية” لم يكونوا مجرد مقاتلين في زمن الحرب، بل كانوا صورة عن جيل آمن بلبنان الوطن النهائي التعددي الحر، وواجه مشاريع الاحتلال والوصاية والهيمنة قبل “حزب الله” وخلاله وبعده من الاشرفية إلى عين الرمانة إلى قنات وزحلة وغيرها.
وعند الحديث عن ذكرى الشهداء، لا يمكن فصلها عن حضور رئيس حزب “القوات” سمير جعجع، وما إتصف به من رمز للصلابة وقوة في الموقف. هو الرجل الذي خاض التجربة القاسية بكل تفاصيلها: من ميادين الحرب إلى سنوات السجن الطويلة في زنزانة انفرادية، حيث جُرّد من الحرية أحد عشر عاماً، لكنه لم يُجرّد من قناعاته.
ومنذ خروجه من السجن برز جعجع أكثر صلابة، وأكثر وضوحاً في خطابه السياسي. رفض أي مساومة على حساب سيادة لبنان، ولم يساير منطق الصفقات أو التسويات التي تشرّع الدويلة على حساب الدولة. وفي كل محطة سياسية، كان ثابتاً على المبدأ، حتى لو دفع ثمن هذا الثبات عزلةً أو استهدافاً أو محاولات تهميش.
منذ عودته إلى الحياة السياسية بعد عام 2005، وضع سمير جعجع خطاً فاصلاً بين مشروع الدولة ومشروع السلاح الخارج عن الدولة. كان من أوائل الأصوات في حركة 14 آذار/مارس التي طالبت برفع الهيمنة عن القرار السياسي في لبنان، ومن أوائل مَن رسم بوضوح خيار الانتماء إلى العالم العربي والمجتمع الدولي، لا إلى محور الممانعة.
وقد ارتكزت مواقفه على ثلاثية واضحة: سيادة كاملة بلا شريك مسلح، دولة قوية وليس دويلات، وتجربة حزبية تحارب الفساد وبعيدة عن الصفقات والفضائح. وهذه الثوابت ليست شعارات انتخابية، بل رؤية استراتيجية اعتمدها جعجع سنة بعد سنة.
واذا كان اللبنانيون انتظروا الأحد الفائت اطلالة رئيس مجلس النواب نبيه بري لترقب مجريات المرحلة، فإنهم بلا شك ينتظرون اليوم اطلالة رئيس “القوات اللبنانية” تحت عنوان “نجرؤ ليبقى لبنان” لرسم ملامح المرحلة خصوصاً أن الحكومة اللبنانية تقف أمام تحدٍّ كبير منذ الانقلاب على اتفاق الطائف يتمثل بمسألة حصرية السلاح بيد الدولة ووضع جدول زمني للانتهاء من وجود جيشين بدل جيش واحد فقط. ومن الطبيعي أن يؤكد جعجع أن الدستور ينص على أن الجيش اللبناني هو القوة الشرعية الوحيدة المخوّلة حماية السيادة، وضرورة الانتهاء من سلاح آخر غير شرعي يفرض معادلاته على الدولة ويعرقل قيامها ويضع لبنان في قلب صراعات المحاور.
والواقع أن جعجع لم يساوم يوماً ولم يقبل بازدواجية السلاح أو بأي تنازل على حساب السيادة والدولة القوية، ولطالما أكد أن أي حكومة، أياً تكن تركيبتها، ستبقى عاجزة عن الإنقاذ ما لم تُعالج جوهر المشكلة المتمثلة باستعادة الدولة كامل سلطتها ونزع السلاح غير الشرعي. وعلى الرغم من أن هذه المعركة أصعب من كل المعارك، إلا أن جعجع الذي خاض أشرس المعارك لم يشأ الانسحاب من المواجهة، مدركاً أن هذه المعركة المفصلية هي التي تحدّد ما إذا كان لبنان سيبقى دولة قائمة بذاتها، أم مجرد ساحة بيد المحاور.
ومَن يراجع مسيرة جعجع في الملمات، يدرك أنه عندما حوصرت السرايا الحكومية من قبل “حزب الله” في عهد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة لم يجد الأخير إلى جانبه سوى رئيس “القوات” الذي خاطر بحياته ونزل إلى السراي لإبداء تضامنه ودعمه لرئيس الحكومة، كذلك كرّر الأمر نفسه حالياً مع رئيس الحكومة نواف سلام في مواجهة حملات التخوين والتخويف لدفعه للتراجع عن قرارات الحكومة التاريخية المتخذة في جلستي 5 و7 آب/أغسطس.
فجعجع كما هو معروف عنه لا يكتفي بالكلام، بل يترجم الصلابة بالأفعال ويُعتبر رأس حربة المواجهة، وتجربته في الزنزانة جعلته قادراً على الصمود أكثر فأكثر، وجعلت منه في عيون مناصريه وجيل كامل من الشباب رمزاً وفياً للقضية وأميناً على إرث الحرية والتضحيات وذكرى الشهداء لم يتلوّن ولم يبدّل تحالفاته ولم يعقد التفاهمات المصلحية، بل استمر بخوض النضال السياسي بعد العسكري من اجل لبنان الدولة.



