إيلي حاج.. إن كتب عن الماضي في الحاضر.. تحية لك تكتب وفاءً وحبًا

توفيق هندي وسهرة عرس نيكولا في بكاسين (إيلي حاج)

حضرنا حفلة عرس ابن الصديقين توفيق هندي وكلود أبو ناضر، نيكولا وعروسته الفرنسية كليمانس، وكانت أمسية ساحرة في ظلال صنوبر بكاسين-جزين، التقينا خلالها أصدقاء ورفقاء قدامى وذكريات عمر. كما في الصورة مع والد العريس وفيفيان صليبا داغر وابرهيم اليازجي، أشهر من تعريف.
تحيةً للدكتور هندي في فرح نجله، أعيد نشر نص كتبته عنه السنة الماضية.


يخبرني الفايسبوك اليوم أنني والدكتور توفيق هندي صديقان منذ 13 عاماً والحقيقة أنه لا يعرف شيئاً. أول مرة التقينا كانت قبل 39 عاماً من اليوم، سنة 1985 في مكتب الدكتور سمير جعجع، قائد “القوات اللبنانية” آنذاك، في الكرنتينا، وأذكر سألت “الحكيم” على جنب إن كان يمكنني التكلم بوضوح أمامه لأنني لم أكن أعرفه، فقال لي إنه في صفّنا لا ينشغل بالك، وكان موضوع الحديث حسّاساً: آخر المعلومات عن مشروع “الاتفاق الثلاثي” والموقف الذي يتوجّب اتخاذه منه. قدّم هندي قراءة معمّقة ومعزّزة بالمعطيات. وكانت الهيئة التنفيذية في “القوّات” عيّنته مديراً عاماً للدائرة الإعلامية التي كان يترأسها نائب القائد كريم بقرادوني، وفي الوقت نفسه مديراً عاماً لإذاعة “صوت لبنان” الكتائبية، بعدما وضعت “القوات” يدها عليها وأزاحت الوزير السابق جوزف الهاشم ورئيسة التحرير ماغي فرح، في حين كان الوزير الراحل سجعان قزي يجلس في مبنى جريدة “العمل” بمحاذاة جسر الكرنتينا على كرسي رئيس التحرير جوزف أبو خليل الذي وُضِع في إقامة جبريّة. أيام سوداء صدرت فيها جريدة الكتائب بنسختين مُتعاديتَين حمراء وسوداء.

كنتُ غير حزبي وغريباً تماماً عن الصراعات الحزبية التي وجدتُ نفسي في وسطها، وفي الآن نفسه أعلّق آمالاً كبيرة على الدكتور جعجع وقدرته على استنهاض الشباب وروح المقاومة اللبنانية لمنع الجيش السوري، وتالياً نظام الأسد، من إنزال قبضته على كل لبنان.

ولم أكُن أرى فارقاً بين الكتائب اللبنانية و”القوات اللبنانية”، بل بين شخصيتي الدكتور جعجع والرئيس أمين الجميّل الذي لم أعرفه آنذاك إلا من خلال ما يكتب عن سياساته واعتباراته رئيس التحرير أبو خليل، وما أخبرني إياه لاحقاً عن تلك المرحلة، وكذلك الرئيس الجميّل بنفسه، بعدما انقلبت أوضاع لبنان كلها رأساً على عقب، كما من خلال كتابه المرجعي “الرئاسة المقاوِمَة” الذي صدر في 2020.

تابعت لأسابيع عملي في “العمل” السوداء حيث أحرّر الصفحتين الأمنيّة والتربوية، وأذكر كنت أطلّ على الزملاء القلّة الذين أصدروا “العمل” الحمراء من البيت المركزي للكتائب في الصيفي. وفي الوقت نفسه كنت سكرتير تحرير مجلة “المسيرة” التي كانت كانت تابعة لرئاسة الأركان، أي للدكتور جعجع، وكانت رئيسة التحرير فيفيان صليبا ( داغر لاحقاً) ومدير التحرير حبيب يونس، جميعنا زملاء من جريدة “العمل”، وكان معنا في سكريتيرية التحرير أنطوني العبد جعجع لكنه غادر المجلة على عجل إلى محطة تلفزيون “إل بي سي” عند انطلاقتها. وتسلّم بيار القاضي قسم الرياضة لفترة. وأما حبيب يونس فاختلف مع الدكتور جعجع بسبب مقالة عن القومية اللبنانية ( وأمور أخرى كما أخبرتني فيفيان لاحقاً)، ممّا أدّى إلى تركه المجلّة.

استقطبت فيفيان عدداً كبيراً من الصحافيات والصحافيين المتمرسين والجُدد، يستحقّون الكتابة عنهم، وعن تجربة “المسيرة” والصحافة الحزبية بالتفصيل، يوماً ما.

ولم تُثِر الرموز والمسائل الدينية اهتمامي ولا توقفت عندها سوى أنها من “عِدّة الشُغل” لتعبئة الناس ضد الاحتلال السوري، وفي ذلك التقيت مع اليساري السابق توفيق هندي مع أنّي لم أكن يوماً يسارياً. وقد خلُصت بعد طول تأمل إلى أنّ مسيحيّتي موضوع روحي شخصي جداً، يدور فيه القتال في داخل الإنسان وليس بالقداديس الشعبوية والرصاص والصور والأعلام والرموز على أعقاب البنادق. يستحيل ان تكون مسيحياً وتؤيد اللجوء إلى العنف. إنما من الطبيعي أن تدافع عن نفسك وعن الذين تحبهم إذا تعرّضوا لخطر إبادة. في هذه الحال نكون أمام فعل تضحية ومحبة. وقد وافقني الدكتور جعجع على ذلك في لقاء تعارف بيني وبينه رتّبت له فيفيان في حضورها ودامَ ساعات طويلة. خرجت مقتنعاً بالنضال من أجل “القضية”، قضية الحريّة في لبنان. وكان انطباعي أن الدكتور هو أيضاً يعيش معاناة بين أن يكون مسيحياً حقاً وبين واجبه في قيادة هذه الجماعة كي تدافع عن نفسها وعن لبنان في آن واحد.

وأذكر بذلت جهداً كبيراً، مع الإصرار، لإقناع الدكتور جعجع بأن يكون معنا في المجلة أمجد اسكندر وعماد موسى، إذ كانا في رأيه آنذاك من أركان القائد السابق ل”القوات” الدكتور فؤاد أبو ناضر . وكان يزداد فرحي كلما لاحظت أنه يغيّر رأيه فيهما رُوَيداً رُوَيداً إلى درجة أنه عَيّنَ أمجد أمينَ سرّه الخاص وصارت لعماد مكانة خاصة لديه. وفي الواقع، فضلاً عن أنّ بيننا صداقة وأنا لا أتخلى عن أصدقائي، ما كان في إمكاني القبول بالمشاركة في أخذ مكانهما في مجلة هما أسّسَاها أيّام قيادة فادي فرام، مع إدغار جلّاد الذي بقي فيها تلقائياً، وجان فغالي الذي احتلّ مكانه من اليوم الأوّل في مديرية أخبار محطة “إل بي سي”.

بحكم المسؤولية عن إصدار مجلة تنطق باسم “القوات”، كنّا فيفيان وأنا، على اتصال يومي بالكثير من المسؤولين في المؤسسة وخارجها، أحدهم الدكتور توفيق هندي، مستشار “القائد” السياسي والمتواضع القريب في سلوكه من كل الناس، فكنت تراه واقفاً في الشمس يشرح لشاب مُسلّح في دوام حراسته صورة الأوضاع في البلاد جواباً عن سؤاله. ولن أنسى لجوءه إليّ مرة كي أتدبّر له طريقة للحصول على ربطة خبز، قائلاً إن زوجته كلود (أبو ناضر) أوصته عليها ولا يمكنه العودة إلى البيت من دونها، قلت له دكتور أنت المستشار السياسي لقائد “القوات اللبنانية” الحاكمة “المنطقة الشرقية”، تمضي معه كل يوم 15 ساعة. معقول تنقِطِع من ربطة خبز؟
قال: “ما إلي عَين إطلُب شي إلي من حَدا”.
مدهوشاً، دبّرت “بُون” يتيح له الحصول على ربطة من فرن في الطريق إلى بيته.

بعد مُدّة، وكانت الدنيا حرب وقصف والشوارع خالية، رأيته في سيارته،”رينو 5″ ذهبيّة، وقد أوقفها إلى جانب الرصيف على طريق مار مخايل . “ليس فيها بنزين، والمحطات مسكّرة”، قال. مرّة أخرى سألته مُستَغرِباً لماذا لم تأخذ بونات بنزين من مكتب “الحكيم”؟ فأجابني بانفعال: “باك شي بعَقلاتَك؟ أنا أطلُب؟”.

صُوَر صُوَر صُوَر… وتوفيق هندي يُنظّر لكل السيناريوات المحتملة ويحدّد أيُّها الأرجح، والأفضل والأسوأ. يحسب الوقائع على الأرض ويُرجّح، متفاديّاً التمنّيات والإسقاطات الأيديولوجية على الواقع. يساعده مراس يساري ماركسي وماوي في تحليل الصراعات على السلطة، مآلاتها والسلوك العام للأنظمة التوتاليتارية، وكذلك طريقة عمل، وتفكير، التنظيمات الجهادية. ينظّر وينفعل. يسبقه لسانه أحياناً فيشتبك. صُوَر حرب التحرير. حرب الإلغاء. الطائف. التطبيق السوري الأعوج للطائف. حلّ “القوّات”. اعتقال الدكتور جعجع. صُوَر الاختلافات والخلافات. المحاكمات والأحكام. صُوَر عهد الهراوي. عهد لحّود. صُوَر توفيق هندي في خلفية الصوَر . خلفية تشكيل “لقاء قرنة شهوان” غير المُعلَن. صُوَر “لقاء قرنة شهوان المُعلن”. البطريرك نصرالله صفير، الله يرحمه، وثِق بالدكتور توفيق هندي أكثر من ثقته ببقية السياسيّين، ربّما لأنه ليس مارونياً، وربماً لمس مبدئيته وتعفّفه عن المال والسعي إلى السلطة للسلطة . ثبّته البطريرك في كل صُوَر اللقاءات والتجمعات السياسية التي كانت تنبثق من ظل عباءته.

لا تفارق ذهني عند ذكره صورة له وراء القضبان. كنت في الكويت، مديراً لتحرير جريدة “الأنباء” الكويتية، كانت حدثت توقيفات 7 آب 2001، طلبت إلى نادر سكّر هاتفياً بعد طول انقطاع بيننا خدمةً، وكان نائباً، أن يستكشف لدى الأمن العام عن اسمي. فجاوبني في اليوم التالي ناصحاً لي بعدم المجيء إلى بيروت لأن “العين محمَرّة عليك”. كان دافعي إلى السؤال أن صديقي حبيب يونس أرسل إليّ من سجنه رسالة فحواها “قولوا له أن لا يأتي إلى لبنان. كانوا في التحقيق يسألونني عنه”.

رُغم تحذير حبيب يونس وجواب نادر سكّر ركبت الطائرة إلى مطار بيروت مُطمئنّ البال. لم أقتل لم أسرق لَم أؤذِ إنساناً، ولا حيواناً حتى في حياتي. وآرائي أكتبها ولا أخجل بها. إذا أوقفوني في المطار فإنّ براءتي ستدافع عنّي.
بعد يومين ثلاثة صعدتُ إلى حبس رومية. قابلتُ حبيب من خلف القضبان والدمعة في عيني. ثُمّ أطلّ توفيق هندي ووقف إلى جانبه. لاحظتُ بحزنٍ أنه مُتعَب نفسِياً. لم أعد أذكر الحديث ولكن أرى الصُورة. ويَد الدكتور هندي، تشير إليّ، يا للغرابة، أن أنصرف. قال لي بعد سنوات أنّ غالبية الواقفين قربهما كانوا مُخبِرين وخشيَ عليّ أو على نفسه من تركيب تهمة ما في حقه إثر زيارتي.

كان الحكم الظالم الذي سُجنَا بموجبه سنة ونصفاً بناءً على اتهامات مُختَلقَة، قد أرفِق بقرار منع الراتب عن الدكتور هندي لقاء تدريسه مادة الرياضيّات في الجامعة اللبنانية. أخبرني وقتها أحد عارفيه كأنه يفشي بفضيحة: لم يجمع مالاً لتوكيل محامٍ حتى! وبالطبع لم أستغرب. كنتُ أعرف أنه ابن أسرة غنيّة سريانية كاثوليكية، أصلها من حلب، كانت تملك عقارات شاسعة في أفخم مناطق بيروت ووكالات سيارات، وفقدت كل شيء في الحرب ولم يُبالِ. كيساريّ حقيقيّ كل عمره آخر همّه المال، رُغم أنّه ضروري لأستاذ جامعة متقاعد اليوم في ظل انهيار العملة الوطنية وكل شيء.

صُوَر صُوَر صُوَر. صُعِقتُ عند قراءتي اتهام الدكتور توفيق هندي بأنّه “يهوذا الإسخريوطي في القوّات”، ومحاولة إخراجه من “لقاء قرنة شهوان” قبيل انفراط عقده، وعُدنا نلتقي ونتقارب منذ 14 آذار 2005 . وعندما تعرّفت إلى اللورد الإنكليزي الأنيق، الوزير السابق محمّد شطح، أدركت سرّ صداقتهما: الذكاء والثقافة، والشجاعة أيضاً. وكذلك صداقته مع الوزير السابق اللمّاح محمد عبد الحميد بيضون. يا لها خسارة ان يرحلا كلٌ بطريقة في عزّ توهّجهما! يطوّل عمرك دكتور هندي لنظلّ ننظّر ونلتقي ونتحادث كل يوم.
(كاس العروس والعريس، وأم العريس كلود زنبرك السهرة الحلوة).
Toufic Hindi
Viviane Saliba Dagher