زياد الرحباني الأريستوقراطي النشأة اليساري الخيار


حبيب شلوق
تحتار كيف تصنّف زياد الرحباني، وهل يمكن اعتباره فناناً، أم موسيقياً أو ناقداً فنياً أم مخرجاً مسرحياً أم ممثلاً أم كاتباً أم سياسياً أم مناضلاً يسارياً؟ زياد الفتى العبقري في كل ذلك، والمولود وفي فمه ملعقة ذهب فهو من عائلة معروفة في كل لبنان والعالم،هذا اليساري الأريستوقراطي النازل من مدرسة سيدة الجمهور بتربيتها المحافظة إلى أرض الواقع المتأثر في جزء كبير منه بالمقاومة الفلسطينية و”الحركة الوطنية”، وزاد في “ثورته” اندلاع “حرب السنتين”عام 1975 وكان في عز بلوغه الشبابي الرافض (19 عاماً)، حتى أن “ثورته” دفعته يوماً إلى الإبلاغ إلى والده بأنه سينتسب إلى حزب الكتائب الأمر الذي أثار حفيظة عاصي البعيد فكـرياً وعقائدياً ومذهبياً وعائلياً عن ذاك الحزب. وعزّز ظهوره الثوري والمسرحي كتابته مسرحية “سهرية” وهو في السابعة عشرة ،السن التي لـحّن فيها أغنية “سألوني الناس عنك يا حبيبي” من كتابة عمه منصور الرحباني لما كان شقيقه عاصي في المستشفى، وغنتها فيروز.
ومن “سهرية” و”نزل السرور”، المسرحيتين اللتين أطلقتا قدميه نحو المسرح، راح زياد يشارك في مسرحيات بيت الرحباني، تمثيلاً من “المحطة” إلى “ميس الريم” وصولاً إلى برنامجه الإذاعي “قولوا الله بعدنا طيبين” من “إذاعة لبنان” الوحيدة في تلك الفترة قبل انفلاش الإذاعات، وهو برنامج نقل زياد من اليمين المعتدل إلى أقصى اليسار وشاركه فيه الممثل جان شمعون، إلا أن انتقاداته لليمين المسيحي من حزب الكتائب إلى الرهبانية المارونية والأباتي شربل قسيس و “باخرة الماعز 80 و120 “في مرفأ “الأكوا مارينا” ، لم تحجب عن زياد متابعيه المسيحيين الذين كانوا ينتظرون “اسكتشاته” كل مساء.
وبرنامج “قولوا الله بعدنا طيبين” عرّف ذلك الجيل وانا منهم على زياد، ومنذ ذلك الوقت أصبح زياد “صديقي” بالصوت لا بالصورة.
ونجـــح هذا البرنـــامج نجاحاً كبيراً فنقل زياد عدة الشغل المسرحي من بقنايا ــ المتن الشمالي ،إلى بيروت “الغربية” وكانت المسرحية الأولى “بالنسبة لبكرا شو” (1978ّ) ، يومها وقفنا بعد المسرحية مع زياد وهو ، وأعترف أنه لم يقبضنا، وانا لم أقبضه كثيراً،ومشينا كل في طريقه نحن إلى “نهار غسان” وهو رسم طريقه ومشى.
ونحن في الطريق مررنا بمطعم Chez André لتناول ساندويش وطبعاً كأس وهناك فوجئنا بزياد الآتي من “الأورلي” من طريق أخرى وتابعنا الدردشة بمزيد من المعرفة.
منذ تلك الليلة بات زياد من معارفي وبت من معارفه، ورحت أتابعه بإعجاب، إذ أن الرجل من نوع آخر، وصرت من مشاهدي مسرحياته: فيلم أميركي طويل (1980)، شي فاشل (83)، “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”(93)، “لولا فسحة الأمل”(94)، “العقل زينة”. وهذه كلها إضافة إلى أغنياته : يا زمان الطائفية، قوم فوت نام، خايف كون عشقتك وحبيتك،الحالة تعبانة يا ليلى، اسمع يا رضا، عا هدير البوسطة، دلوني عالعينين السود ، نزل السرور، جعلتني أسير ذلك العبقري. وصرت مدمناً حضور مسرحياته ، يشجعني في ذلك النوم في “النهار” مطابع ومكاتب، ثم لبعض الوقت في أوتيل Cavalier الذي اعتمدته “النهار” مخدعاً وكان لبيت الأسود وصار للنائب أنور الخليل.
ومع الوقت بتنا قريبين زياد وأنا، حتى أنه اتصل بي عندما كتبت مقالاً وجدانياً عن صديقه المغني جوزف صقرالذي توفي في 1 كانون الثاني 1997 ــ ذكرى ميلاد زياد ــ ليشكرني، ويثني على مضمون مقالي.
ولواقعية زياد وعمقه، كنت أشعر أن بعض شخصيات مسرحياته تشبهني، من إدوار الأرمني في “فيلم أميركي طويل” الذي كان يُعتبر مسيحياً في “الغربية”، وأرمنياً في “الشرقية”، إلى ذاك الممثل الدرزي في “شي فاشل” الذي كان يتغيّب عن المسرحية “لما يكونوا الدروز مزروكين في معارك الجبل” ويأتي “لما يكونوا رفقانين”.
آخ كم كنت أرى نفسي في الدورين وأنا أجتاز “البيروتين” على معابر المتحف والنورماندي والكفاءات وسباق الخيل.
يبقى أن في حياة زياد “صديق الله” والملحن والكاتب تراتيل كنسية، إمرأتين دلال كرم ثم كارمن لبس والزواجان لم يستمرا طويلاً.
زياد كان نسيج وحده، لم يشبه أحداً في شيء ولم يشبهه أحد. كان ذلك الثائر الشفاف والمفكّروالعاشق الحرية والكأس والسيجارة ، والعبقري المتواضع ولكن المتمرّد على كل خطأ وعلى كل ممارسة شاذة.
كان أريستوقراطي النشأة، يساري الخيار.