أخويّة العذراء وجواب أمّي


بقلم المحامي
جورج ميشال أبو خليل


أخويّة العذراء وجواب أمّي
( مهداة إلى أخويّة الحبل بلا دنس، في بلدتي حارة الستّ، في ذكرى مرور خمس وسبعين سنة على تأسيسها
)

أكتبُ اليوم، وأنا أعود بالذّاكرة إلى ما قبل الأحداث الأليمة الّتي عصفت بلبنان، ولمّا تزَلْ مفاعيلُها تتوالى؛ فالدّمار على مستوى الوطن، لم يطَلْ ذاكرتي، والحمدُ للّه، وما زالَ في طيّاتها مخزونٌ من الأيّام الخوالي الّتي كانت تنبض بالإيمان والمحبّة والتّقوى والسّلام.
حينذاك، لم تكن أخبار الحرب وجولاتها ومآسيها، تمرّ ولو بشكلٍ عابرٍ في مخيّلتنا، ولا كانت تحليلات مَن يعرفون بالسياسة، ومَن لا يعرفون، تشوّشُ أفكارنا؛ فهمومنا محصورة بما يعيشه الإنسان، في مثل هذا العمر، زنابق طفوليّة ترنو إلى التفتُّح على ربيع الحياة. كان همُّنا أن يكون الطقس جميلاً، أيّام العطلات وفي نهاية الأسبوع، كي ننصرف إلى اللّعب، حيث يفتضحُ مكان وجودنا من خلال صيحات الفائزين واعتراضات الخاسرين. وكانت ساحة الكنيسة مسرح ألعابٍ كثيرة، تفتحُ لنا ذراعيها، كلَّ يوم، ما عدا بعدَ ظهر يوم الخميس.
أجل! ففي هذا الوقت كانت الكنيسة على موعدٍ مع “بنات الأخويّة”. وما أدراكَ بوقعِ هذا اللّقب في نفوسنا، نحن الصّغار، فقد كنّا ننظرُ إليهنَّ بخفرٍ واحترام، على أنّهنّ ملائكة العذراء، وقد جنَّدنَ لها الوقت في تلاوة فرضها، والاجتماع للصّلاة إكرامًا لها.

وكنتُ أجد متعةً في استعراض أسمائهنّ على اللّوحة الّتي كانت معلّقة إلى يمين الباب الرئيسي للكنيسة، من خلال قصاصة ورقٍ تحنضنُ كلًّ منها.
كنتُ أراقب أمّي، وقد طوَّقَتْ عنقها بتلك الشريطة الزرقاء العريضة، التي تتدلّى منها أيقونة العذراء الفضّيّة، وتتوجّه إلى الكنيسة التي بدأت دروبها تشهد توافد النساء، من الحيّ الفوقاني، وحيّ “بيت الشيخ” والأطراف. وإذا حصل أن كنّا ما نزال في الساحة قبل بدء الصلاة، فنتهيّب، الموقف، ونتوقّف عن اللعب، إلى أن تنتهي المصلّيات من تلاوة الفرض وطلبة “يا أم الله” وال”كيرياليسون”؛ فساعة الصلاة ساعة مقدّسة، ومن غير الجائز أن تنتشر الضوضاء في فناء الكنيسة، فيما هناك من يصلّي في داخلها. في هذه الأثناء، كنّا نتجمّع على درج القنطرة، نتأمّل بالصلوات المرتفعة من قلوب خاشعة، نستمع بصمت، فلا يصدّق مَن يرانا على هذا النّحو أنّنا نحن أنفسنا مَن كنّا نملأ الدّنيا صراخًا قبل حين. إنّه فعل الرّوح. وغالبًا ما كنّا نعود إلى منازلنا، مع أمّهاتنا وأخواتنا، بعد صلاة الأخويّة، وقد فعلَت بنا هذه الوقفة الروحيّة فعلها، فنستسلم إلى الاستغراق في حضور مريم، أمام صورتها المعلّقة في كلّ بيت.
والنّعمة الكبرى أنّ خمسًا وسبعين سنة تمرّ، وما زالت الأخويّة مزدهرة، لا بل علمتُ مؤخّرًا أنّ هناك أخويّة للشباب تشقّ طريقها، فنِعمَ الخبر والحدث.
ماتت أمّي وكتابُ فرضها تحت مخدّتها. سألتها يومًا، ببراءةٍ طفوليّة: “لماذا تبدأ هذه الخالة بالكلام، دائمًا”؟ فقالت لي: “إنّها رئيسة الأخويّة”. تابعتُ وسألتُها: “ومتى ستكونين أنتِ رئيسة الأخويّة”؟ فابتسمَتْ وأجابتني بحكمتها البسيطة المعهودة: “يا ولدي، عندما تكون أمّنا مريم العذراء رئيستنا الأولى، فلا يعود مهمًّا مَن تكون الرئيسة، بعدَها؛ فأمامَها تخشعُ كلّ الرّئاسات”.

حفظ الله عذارى الأخويّة الحكيمات، قي بلدتي، ورحِمَ أمّي، ومتّعها مع بناتِ الأخويّة الرّاحلات، برؤية وجه رئيستهنّ الأولى في السّماء، حيث الأناشيد لا تنتهي، والأفراحُ لا تزول.