سعيد غريّب
يروى أنّ الخليفة عمر بن الخطاب وقف على كرسي ليمسك بقنديل كان يضيء الدار حيث كان يتحدث، أمام جمهرة من المؤمنين، ويعيد تعبئته بالوقود المستخدم في ذك الزمن، بعدما خفّ نوره وانطفا. أعترض الحاضرون على ما فعله أمير المؤمنين ،ولم يتقبّلوا فكرة أن يقيم الخليفة بنفسه ليملأ زجاجة القنديل ويضيئه، قبل أن يعيده الى مكانه. ووقف أحدهم وقال له:” يا مولانا نحن هنا لخدمتك ولست لخدمتنا”.توجّه أمير المؤمنين الى الملأ وقال لهم: ” ما عليكم، قمت وأنا عمر، وأصلحته ورجعت، وأنا عمر.”
تقدّم هذه الرواية المتداولة صورة عن مفهوم الحكم والحاكم يجدر التوقف عندها اذ تطرح اشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فتضيء على حاكم ميزته التواضع وسرعة الحركة في خدمة ناسه. وتعيدنا الصورة في عصر التواصل والاعلام المنفلش الى تقييم بروفايلات المسؤولين من خلال تعاطيهم المباشر مع الناس او غير المباشر من خلال الاعلام.
صحيح ان الاعلام المدروس قادر على صقل صورة الحاكم ليرضي ويقنع ويحشد. لكنه يبقى في جميع الحالات سيفا ذا حدين من شأنه ان يؤذي – واحيانا من غير حق- ، او ان يجتزئ او يتلاعب او بكل بساطة يفضح المستور. والواقع أنّه لم يعد من مستور في هذا العصر، فحتى كبار الحكام في العالم يقدّمون كل عروضهم الطافحة بال ego او “الأنا “وبكل المشاعر السلبية والايجابية على الملأ وامام الشاشات، حتى يكاد القول المحلي المأثور في مجتمعاتنا ” افتكرنا الباشا باشا طلع الباشا زلمي ” ينطبق عليهم.
ولعل هذه ” الأنا” هي الباقية علة للعلل عندنا خصوصا عند من دخلوا الى الشأن العام وتخطّوا في ممارساتهم اليومية قيم الكفاءة والتواضع والخدمة. فبعض هؤلاء الطارئين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها اذا كانت مناسبة ما قد اختارت لهم كرسيا أو مقعدا في صفّ ثان أو ثالث . وثمّة كبار يصافحون الناس وهم جالسون ولا يجيبون على هواتفهم ويعاملون حتى مع محبيهم بازدراء وفوقية وطبقية، هذا اذا التقوهم والتزموا مواعيدهم مع طالبي المواعيد.
بعض الطارئين يقفلون أبواب مكاتبهم. واذا اجابوا على هواتفهم يقولون للمتصل انّ سعادته ليس على السمع ويكون المجيب هو نفسه سعادته بعد تمارين جعلته خبيرا في تغيير الأصوات. ينسون أنّهم ان تواضعوا يكبر الشعب بهم، وانّ تنازلوا له يقوون ويقوى معهم . ويصح القول أيها السادة الكبار ان هذا التواضع من شأنه أن يعطيكم الدفع القوي، يحفّزكم ويحضّكم على اجتراح الحلول، يقوّي فيكم حاسة السمع ونعمة الاستماع فترون بصورة أوضح كلّ المشاكل التي يعاني منها الوطن والمواطن وكلّ المصائب التي خلفتها الحرب وأزمات ما قبل الحرب وما بعدها. ان تنازلتم فلكي يعود التواصل بينكم وبين الناس العاديين والمثقفين طريقا من أجل النهوض من أزمات الوطن. ولعلّ هذه الدعوة تنسحب الى المعتبرين من أهل القلم ايضا ، لتيجنبوا التعالي وحالات الفوقية.
وعطفا، من المفيد التذكير بما كتبه ذات يوم الفيلسوف الصيني “لاوتسي” “ان المحبة والخير المطلق هما كالماء، فالماء يعمل لجميع الكائنات ولا يطلب أية شهرة، والماء يقتنع في البقاء في الامكنة المنحدرة التي لا يرتضيها أحد. فعلى الذين يتمثّلون بعنصر الماء أن يتواضعوا، أن يكونوا خيّرين، مخلصين منتظمين ذوي جودة واستبصار وليجانبوا كل ّمصلحة ذاتية ليصلوا الى الاطمئنان”.



