“عن القطار المستقيم والتصويت المزدوج”

سعيد غريّب
 
يروي الوزير الراحل ‎#فؤادبطرس، في كتابه “المذكرات”، قصة لقائه الأوّل مع الرئيس ‎#فؤادشهاب في القصر الجمهوري، في جونيه،عام 1959، وتذكّر كلاما قاله له في نهاية ذلك اليوم الطويل معقبا ” لن أنساه ما حييت”. ” قال الرئيس شهاب: “عندما كنت قائدا للجيش مكثت سنوات عديدة على الشرفة، أراقب كلّ ما يجري من انتخابات وغيرها. واطّلعت على أمور كثيرة ولم يخفَ عليّ شيء، وأعرف الكثير عن اللعبة السياسيّة، ويمكنني تقييم رجال السياسة جميعا لأنّني راقبتهم وعرفتهم جيدا، وما رأيته أزعجني وزرع في داخلي خوفا كبيرا على مصير هذا البلد ومستقبله. سأقول لك أمرا، نحن لم نتمكن بعد من بناء وطن بمعنى أمّة. يجب أن نسعى الى انشاء دولة سليمة ، حتّى اذا تمكنّا من ضمّ اللبنانيين اليها يصبح ممكنا أن نرتقي الى وطن، أريد منكم أن تساعدوني لاقامة دولة بالمعنى الصحيح. “
وفي معرض حديثه عن أهل السياسة ووضع الادارات الرسمية قال: ” في لبنان المصلحة الخاصة والفساد والمراوغة أمور مستشرية جدا، بحيث بات من الصعب على المرء ايجاد شخص خلوق ونظيف الكف لكي نوليه المسؤولية ثم أردف: لحسن الحظ لدينا قطار في لبنان. وأظنّه الشيء الوحيد الذي يسير بشكل مستقيم في هذا البلد.”
نترحّم اليوم على فؤأد شهاب وفؤاد بطرس والقطار الذي نحنّ لاستقامته، ونتذكّر ما قاله فؤاد شهاب لفؤاد بطرس، قبل ستة وستين عاما، ونردّده كما لو قاله اليوم. وبعد ستة وستين عاما، يبدو أنّ اللبنانيين المتعبين وفّقوا برئيس من قماشة فؤاد شهاب خلوق ونظيف الكفّ ومقدام، ويسير بخطى سريعة لايقاف البلد على رجليه واعادته الى سويسرا الشرق الاوسط، على حد تعبير الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي خصّ لبنان بالتفاتة مهمّة، على هامش لقاءاته في المملكة العربية السعودية.
يخوض اللبنانيون بحماس، منذ حوالى الشهر، تجربتهم الديموقراطية الاولى في العهد الجديد بالاستحقاق البلدي العائلي،وعلى رأسهم كبار النافذين وزعامات من خارج مناطقهم وقراهم وحتّى مدنهم. هؤلاء يخوضونها عنهم وباساليب فوقية بالاختيار والتبني وقطف النتائج والنجاحات. والسؤال: هل يخوض اللبنانيون الانتخابات وفق قانون عادل يضمن صحة التمثيل؟
ما هو معروف ان معظم اللبنانيين لا يصوّتون حيث يسكنون، وهذه حقيقة بحد ذاتها علّة اساسية. وما هو معروف ايضا أنّ المجالس البلديّة في معظمها قد لا تعير مناطقها أيّ اهتمام يذكر، باعتبار ان ساكنيها من غير الناخبين. ورب سائل : ما نفع أن ينتخب المواطن مجلسا بلديا في قرية أو بلدة هجرها منذ زمن لغير سبب ولا يزورها الا في المناسبات أو ليدفن فيها؟ ولا بد من مجيب أنّ المواطن يريد ان ينتخب لا أن يصوّت للذين لهم طعم ولون وشكل ، للذين يخدمون قريتهم وينهضون بها. فهو يطمح الى أن ينتخب في ألمكانين: حيث يقيم أي حيث السكن الحالي حفاظا على حقوقه فيه، وحيث سكن أجداده وأجداد أجداده حفاظا على جذوره وانتمائه . فهو يهتم للمكانين على حدّ سواء ويريد الاعتناء بالاثنين معا، على غرار ما يمارسه حاملو جنسيتين لبنانية وغير لبنانية. وأن يشعر المنتخب ( بفتح الخاء) أنّه ملزم بجميع سكّان بلدته أو مدينته، فيؤمن الخدمات للأصيل كما للمقيم الذي يشارك في تقديم واجباته للسلطة المحلية القائمة من دون حق اختيار المنتخبين للبلدية. المطلوب أن يفلش الزفت في كل احياء البلدة للاثنين معا وأن يغرس الأشجار للاثنين معا، وأن يعدل في جميع المشاريع للاثنين معا وأـن تكون مصلحته في خدمة الاثنين معا. انّ المواطن لم يعد يريد أمراء يريدون تجيير الاجماع لمصلحة سياساتهم وتصويره على انّه انتصار لفريق وهزيمة لفريق آخر على غرار العبارة الشهيرة” فازت هذه اللائحة بدعم من هذا الحزب أو ذاك”.
ان الناس تعرف أنّ اشتراك الامراء في الانتخابات لا يعني الاشتراك معها، بل الاشتراك ضد الآخرين وما اجتماعهم الّا وجهان لعملة واحدة.