ربّي وإلهي.. طوبى لمن أمنوا ولم يروا

أحد مبارك
الإنجيل بحسب القديس يوحنا
يوحنا ٢٠/ ٢٦-٣١
“وبعد ثمانية أيّام، كان تلاميذ يسوع ثانيةً في البيت، وتوما معهم. جاء يسوع، والأبواب مُغلقة، فوقف في الوسط وقال: “السّلام لكم!”. ثمّ قال لتوما: “هاتِ إصبعكَ إلى هنا، وانظُرْ يديَّ. وهاتِ يدكَ، وضعها في جنبي. ولا تكن غير مؤمنٍ بل كُنْ مؤمنًا!”. أجاب توما وقال له: “ربِّي وإلهي!”. قال له يسوع: “لأنّكَ رأيتني آمنت؟ طوبى لمن لم يروا وآمنوا!”. وصنع يسوع أمام تلاميذه آياتٍ أخرى كثيرةً لم تدوَّن في هذا الكتاب. وإنما دوِّنَتْ هذه لكي تؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم، إذا آمنتم، الحياة باسمه.”

يا ربّ، إنّ الأحد، أوّل يوم من الأسبوع، بعد عطلة السبت أصبح يومَك: “يوم الرّب”.
هو اليوم الذي تَحقَّقَ فيه الحدث الفريدُ في التاريخ. لقد أسَّسَتْ قيامتك لِعَهْدِ خليقةٍ جديدة، لم يعد للموت سلطة عليها.
لِمَ تَبحثون عن الحَيّ بين الأموات؟
لقد انبَثَقت الحياة من القبر، وابتدأ كل شيء.
كتبَ أحد كبار شعرائك، دانتي Dante، سنة ١٣١٠ في “المسرحيٍة الإلهيّة”:
“إنّ الحبّ هو الذي يُسَيِّر الكواكب”.
هذا عين الصّواب ! يُدرِك الشّعراء جوهر الأمور، ويدركون ما لا تراه الأعيُن.
بالفعل، إنّه الحب الذي يدفعك، مُتَلهِّفاً للقاء أحبّائك قبل نهاية اليوم الأول، وهذا أمر طبيعي ومنطقي. لا يُعقَل العكس. لكن ما لم يذكره الإنجيل، وما يُثبته الشرقيّون، هو أنك تراءيت أوّلاً لأمّك في زيارة سريّة مُحِبّة وصامتة. أنت تعلم أنّنا نحتفل في الشرق بهذه الزيارة، ثاني يوم الفصح. إنّه “عيد تهنئة العذراء” نُنْشِدُ في الطقس الماروني “تَهلَّلي وافرَحي لقد قام ابنك” ونُنْشِدُها باللّغة الآرامية، التي هَدهَدَت نومَك وأنت طفل.
لقد تراءيتَ في اللّيلة ذاتها، لِرُسُلِك. وَقفتَ بينهم فجأة ! كلّا، ليسوا في حُلُم ! إنّك أنتَ بالذات، لا حاجة لأن تَقرَع الباب وَتُعلِن: “ها أنا ! ” يَعبُرُ جسمك، وقد تحرَّر من العوائق الماديّة، كل الحواجز. هذا الجسم الذي يحمل آثار الآلام، قد أصبح روحانيّاً ومُمَجّدًا.
إنّك تحمل إليهم اليقين الحِسّي، الذي يُخوّلهم أن يلمسوا بإصبَعِهم، أن يروا بأعينِهم، ويَسمَعوا بآذانِهم، أنَّكَ قد قُمْتَ، وأنَّك من عرفوه، وعاشوا بِكَنَفِه مُدّة ثلاث سنوات. كنتَ قد ذكَّرتَهم ليلة خميس الأسرار، بكلام التّوراة: “سأضرُب الراعي فتَتَبدَّد الخراف”. وبالفعل، لقد اضطّرب رسلك وتحيّروا لغيابِك. لذا حَمَلَكَ حُبُّك، لأن تُسرِعَ مُتَلهِّفاً لِلقائهم وتَعزِيَتهم.
لقد تَخَلّوا عنكَ، وأنكَروكَ ساعة الصّلب على الجلجلة؛ وها هم الآن، يَجتَمعون، وقد أغلقوا عليهم الأبواب خوفًا ورعباً. وإذا بك تأخذ المبادرة، وتتراءى لهم. لا توجّه إليهم اللّوم، فليس هذا أسلوبك في المعاملة أنت تتسلّل إلى قلب حزنهم وخوفهم، وَتُفجّر فيهم الفرح. أنت تحرَص على أن يغمرهم هذا اللقاء حتى أعماق نفوسهم، وأن يُوفِّر لهم اليقين والفرح بقيامتك.
“السلام عليكم !” أضفى الحدث على السلام المألوف معنىً خاصاً . كيف يُمكِنُهم أن ينعموا بالسلام، بعد الأحداث المأساوية التي عاشوها ؟ بكل حُنوٍّ تدعوهم إلى أن يلمسوك وأن يتفحَّصوا جراحَك.
يحمل جسدك علامات تعذيبك. فأنت لست بِشَبحٍ لقد قُمتَ حقاً من بين الأموات. ورأوا قبرك الفارغ، ها أنت هنا، ماثِلاً أمامهم، كما لو لم تُغادِرهُم أبدًا. لقد سبق ووعدتهم:
“إني ذاهبٌ ولكن سأرجعُ إليكُم”.
لماذا يُشَكِّكون بذلك؟ لقد استعادوا سلام النّفس، وَشَعَّ فرحهم. يمكنك أن تُرَدِّد حينها هذه الكلمات: “السلام عليكم !” وتُتَرجِمها “لو تدحال”، “لا تخافوا”.
إنَّ حضورك هو حضور الرّحمة والغفران الذي أضرَم قلوبهم المُمزَّقة. هذا السلام هو أنت بالذات. تلاميذك هم أقرب إلى قلبك اليوم وأعزُّ ، أكثر من أيّ وقت مضى. ومجد الله، الذي يُشرِقُ من جسدك لا يُبعدك عنهم. فليسوا أصدقاء وحسب، بل أخوة لك. “إني صاعد إلى أبي وأبيكم، إلهي وإلهكم”.
فيك، أصبح الله إنسانًا، والإنسان إلهاً.
ماذا سيفعل الآن تلاميذُك ؟ لقد عَهِدْت إليهم برسالة . هُم من كانوا قد أغلقوا الأبواب عليهم، وانزَووا، تدعوهم لأن يُشَرِّعوا الأبواب ويَنطَلِقوا لِيُبَشِّروا باسمك العالم أجمع.
“كما أرسلني الآب، أُرسِلُكُم أنا أيضًا”.
هل هي رسالة مستحيلة؟ على صعيد بشري، نعم. ولكنَّ “ربّ الحصاد”: هو الرّوح القدس، النَّفَس الخالق، فالنّجاح إذاً مضمون.
لم يَكُن توما مَعَهُم في هذا اللِّقاء الأوّل. هو من أعلن بكل حماسة: “فَلنَذهَب، ولنَمُت معه”، هل خَجِلَ الآن، لأنَّه تخاذَل ولم يتبعكَ حتى النّهاية؟ رغْمَ ما أورده الرُّسُلُ ومريم المجدلية، يرفض البحث في الأمر . يُصِرُّ على موقفه. يَعتَرضُ ويَطلُبُ براهين. يريد أن يُبصِرَ بعينيهِ، وأن يَلمُسَ بِيَديهِ وكفى. لا يؤمن إلّا بهذه الشّروط. يا ربُّ كم من مشكِّكين بينَنا مثل توما، يُطالبونَ بآياتٍ وإشاراتٍ “بطريقِ دمشق”! وأنت تَحِنُّ وتتأثَّرُ أحيانًا بهذا النّوع من المزاج.
بعد ثمانِية أيّام، وكأنَّك أتيتَ خِصِّيصاً لأجله. وعلى غِرارِ مُعَلِّمٍ يَتجاوبُ مع أسئلة تلميذه، تُباشِرُ في الإجابةِ عن اعتراضِه نقطةً نقطة، وَتُريهِ جِراحَ يديكَ وجنبكَ، وتَدعوهُ لأن يَضَع إصبَعه في الجِراحِ ويؤمن.
عبرَ توما، أنتَ تُجِيبُ كلَّ المُشَكِّكين وتَتَوجَّه إلى الَّذين سوف يُثيرون الاعتراض والشّك. تأثَّر توما بحضورك، وبما عَبَّرْتَ عنه من لَطافة ومودّة، أكثر من البراهين
التي قَدَّمْتَ له. انتَعَشَ إيمانُه وأَعْلَن: “رَبّي وإلهي”. وتَجَلَّتْ لإيمانه، طبيعتَاك الإلهيّة والإنسانيّة، مُتَّحدتَين بمجدك.
فيما كنتَ تُغادِرُهم، توجّهت إلى تلاميذك بالتّطويبة الأخيرة :
“طوبى للّذين يؤمنون ولم يروا”.
بالإيمان، نكونُ مَغمورين فعلاً، وباليَقين والفرح، كما لو كنّا مكان توما. فَمُنذُ ألفَي سنة، يُكَوِّن ملايين المسيحيّين جسدَكَ السِّرّي، ويُقَدِّمون أسطعَ برهانٍ على انتِصارِكَ على العَدَم.
شُكرًا لتوما! بِفَضله لا نحتاج أن نَرى لِنؤمِن. فالحُبّ ينوبُ عن الرّؤية مع أنّ إيماننا ليس إيمانًا أعمى. أعلنَت الكُتُب عن مجيئك. وتكلَّمَ عنك الإنجيل بوضوح ودِقَّة. وأثبتَ قيامتك حُرّاس القبر، النِّسوة والرّسل، وسَفَكَ تلاميذُك دماءَهم شهادةً لك.
لا ! لا يَتعارضُ عِلْمُ اللّاهوت مع الأحداث التاريخية. حافظتَ على علاماتِ العذاب في جَسَدِكَ لا لِتُشعِرَنا بِالذَّنْبِ بما اقتَرَفنا من خطايا، بل لِتُذَكِّرَنا بأنك عَبَرْتَ الأَلَامَ حُبًّا بنا، وَسَحَقتَ الموت.
لِنُصَلِّ:
يا رب، ليتَنا نُدرِك أنَّنا مُجرَّدُ حُجَّاجٍ على هذه الأرض. وأنَّنا خُلِقْنا للأبدية. وأنّ مسكِننا الحقيقي هو بالقُربِ منكَ. أهِّلنا لنكونَ على استعدادٍ لمساءِ حياتِنا الأخير، حيثُ سنَلتَقي بك ونتأمَّلك أخيرًا، وجهاً لوجه
“ربّي وإلهي”.
نعم، يا رب نحن نُؤمِنُ بأنَّك أقوى من الموت وبأنَّكَ أتيتَ لِتُخَلِّصَنا. تبارَكَ اسمُكَ! قد خَرجتَ من القبرِ، وَصَعِدتَ. وها أنتَ في حُضنِ الآب الأزلي تَنتَظِرُنا ( صلاة من الطقس الماروني).


من كتاب ” الإنجيل في صلاة” للأب منصور لبكي.