الجمعة العظيمة
كنّا ننتظر، من السنة إلى السنة، أن تنبت تلك الزهرة الصفراء، وتكتسي بها المروج الخضراء المنتشرة بين المنازل وعلى أطراف الضيعة، ولا سيّما في ذلك المثلّث بين منازل العمّين لويس وجوفر الخوري والعمّ يوسف قبلان، وتتوسّطها غرفة العمّة “إميلي” الّتي كانوا ينادونها في الضّيعة ب” أملين”، وهو تحوير معروف في القرى للأسماء الأجنبيّة، بسبب عدم إلمام النّاس بهذه اللّغة، ومن واحدٍ إلى آخر قد يتبدّل الاسم برمّته؛ وكانت العمّة ” إميلي ” تعيش مع والدها الجدّ ” أبو وديع ” الختيار، الّذي توفّي عن عمرٍ قاربَ المئة وعشر سنوات، وربّما تجاوزَها ، والّذي بقي والدي يتذكّر ” الردّة ” الّتي نظمها له ولوالدتي، وهو في هذا العمر، حين زاراه بعد زواجهما، قال:
” يا ريت برجع شبّ واسكن جاركن بين الأحِبّا يا ما أحلى جواركن
منّي التّهاني للوحيدة والوحيد انشالله عشر صبيان يربو بداركن.”
وبالعودة إلى هذا اليوم المقدّس، فقد كان يعصف بنا شعور غريب، تسيطر عليه مسحة من الكآبة، لأنّه كان يذكّرنا بحقيقة الجمعة العظيمة. وكانت هذه الزهرة هي شغلنا الشاغل ونحن نجمع عقدًا منها نضعه على قبر المسيح.
ومن ساعات الصباح الأولى، وغبَّ انبلاج الفجر، كنتَ ترانا منتشرين في المروج، نمدّ أيدينا إلى تلك الأزاهير، نحاذر أن تتناثر أوراقها، ونضعها برفق في العلبة الكرتونية التي أعددناها لهذه الغاية، فتروح أصابعنا تنتقي منها الأحجام المتناسقة، حتّى إذا ما وجدنا أنّ الكمّية باتت تكفي قفلنا عائدين إلى منازلنا.

وهناك يبدأ العمل، فنجلب خيطًا قاسيًا ندخله في خرم “الميبر” وهو إبرة كبيرة، ونجعل الخيط طويلاً بمقدار ما نريد طول العقد، ونروح نشكّ الأزاهير واحدة تلوَ الأخرى؛ وكلّما طال العقد خالجنا شعور من الزهو الطفولي بأنّه سيكون الأطول؛ ونأتي على الفراغ منه، فنصل طرفي الخيط ببعضهما، وننصرف إلى مساعدة أمّي في تحضير طعام الغداء، على وقع تراتيل الآلام تتردَّدُ في أنحاء الضيعة، تبثّها إذاعة لبنان، ولم يكن هناك سواها. وكان الغداء عبارة عن زعتر رفيع نجمعه من الحقول، ولا سيّما على ذلك الطريق اللولبي المؤدّي إلى جنائن “عين الديك”، من الناحية العليا، وهو ينبت في تربة من نوعيّة محدّدة، حيث يكثر شوك البلاّن؛ وإلى جانب الزعتر كانت هناك “عجّة الشمرا” الخالية من البيض، وكانت تُصنع عادةً من “الشمرا” والطحين والبندورة المقدّدة، وإذا أردنا إضافة صنف آخر فكنّا نضيف بعض حبيبات الزيتون، وكان البعض يمزج الزعتر بالخلّ بدل الحامض، شعورًا مع السيّد المسيح الّذي أعطوه الإسفنجة مملوءة خلاًّ. وغالبًا ما كنّا نتناول الغداء على طبق القشّ، تحت شجرة “الحنبلاس” أمام باب المطبخ المتباهي بلونه الأزرق، بعد أن نكون قد تيقنّا من حلول الظهر، إثر تردّد أصداء الأجراس من الكنيسة فوق البيت والكنائس المجاورة، ولا سيّما منها جرس دير مار تقلا – وادي شحرور السّفلى، التابع للرهبانية اللبنانية، والّذي كان بمثابة”منبّه” يعلن التبشير الملائكي ظهرَ كلّ يوم.
ولا تكاد الساعة تقارب الثالثة، حتّى تملأ الجو دقّات حزن رتيبة، إنّه وقت دفن المسيح؛ ويتقاطر أهل الضيعة جماعات وفرادى من كلّ صوب، فالحادث جلل، والصمت مخيّم، فليس سهلاً أن يموت ربّ الموت. ونروح نحن الصغار نتباطأ في سيرنا، ربّما ليتسنّى لنا عرض العقد الّذي أبدعته أناملنا على أكبر عدد من المؤمنين. ونتقدّم نحو الكنيسة، وندخل، وفي الوسط بساط أسود للمناسبة، يتصدّره الصليب وعليه
وشاح أسود أيضًا، وعلى الجانبين المقاعد الخشبيّة وقد أُبدلت طريقة صفّها ليتّسع المكان أكثر، فنضع العقد إلى جانب الأزهار الأخرى، وقد تفاوتت، على بساطتها، من رزمة ورق زيتون، أو زهرة زنبق أو وردة، وسواها…فالأصل النية، والكلّ مؤمنون. وتبدأ الرتبة، وتصدح الأصوات على وقعٍ حزين خاص بالمناسبة، وتأبى بعض الأصوات الناشزة إلاّ المشاركة على طريقتها؛ وبعد القراءات والأناجيل والعظة، يحين الوقت للتطواف بالنعش، وكان كبار الضيعة يتولّون مهمّة حمله، فليس في الأمر مزاح؛ وننطلق من داخل الكنيسة، وندور في الساحة ثلاث دورات، ثمّ يقف الحاملون وهم رافعون النعش على الباب، فنمرّ تحته متبرّكين. وتنتهي الرتبة، ونعود إلى البيوت، لا كمن يعود من ذكرى، بل كمن يعود من مأتم حقيقي، والعديد من المآقي ملأى بالدموع.
وعند المساء، كان الكبار بيننا يعودون إلى الكنيسة للسّهر مع العذراء مريم، وتعزيتها على فقد وحيدها، فيما يبقى الصغار مع الجدّة، وقد هيّأت لهم برنامجًا دينيًّا خاصًّا بها، يبدأ بأسرار الحزن، ولا ينتهي بطلبة”أنا الأم الحزينة”، فالليل طويل، والسهر واجب.
سقى الله تلك الأيّام.
المحامي
جورج ميشال أبو خليل



