أحد مبارك للجميع
الإنجيل بحسب القديس يوحنا
يو ٢٩/١-٣٤
وفي الغدِ رأى يسوع آتياً نَحوَه فقال: “هُوَذا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرفَع هذا الَّذي قُلتُ فيه: يأتي بَعْدي رَجُلٌ قد تَقَدَّمَني لأنَّه كانَ مِن قَبْلِي. وأنا لم أكُنْ أَعرِفُه، ولكِنِّي مَا جِئْتُ أُعَمِّدُ في الماء إلَّا لِكَي يَظْهَرَ أَمْرُه لإسرائيل”.
وشَهِدَ يوحَنَّا قَالَ: “رَأَيْتُ الرُّوحَ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كأَنَّه حَمامَةٌ فَيَستَقِرُّ عَلَيه. وأَنا لَمْ أَكُنْ أَعرفه، ولَكِنْ الَّذي أَرْسَلَني أُعَمِّدُ في الماء هو قال لي: إِنَّ الَّذِي تَرَى الرُّوحَ يَنزِلُ فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ، هو ذاكَ الَّذِي يُعَمِّدُ في الرُّوحِ القُدُسِ وَأَنا رَأَيْتُ وشَهِدتُ أَنَّه هو ابنُ الله”.
یا رب، تعرضُ علينا الكنيسة اليوم أن نتأمَّل شهادة يوحنا المعمدان لك، بعد معموديَّتك بقليل، وذلك بحضور تلاميذه، وفي عدادهم الإنجيلي يوحنا .
إسمح لي أولاً يا مُعَلِّمي ورَبِّي، أن أُعَبِّرَ كم أُجِلُّ يوحنا المعمدان. إنَّه الوحيد الذي حَظِيَ أثناء حياته، بِمَديحٍ على لِسانك. الكنيسة المارونية تَحتَفل في اليوم التالي لعيد الدنح”، في السابع من كانون الأول، “بعيد المديح ليوحنا المعمدان”، يا له من قديس إنه يَعْبُرُ بنا من العهد القديم إلى العهد الجديد. يُلازِمُ مكانه بينما تُتابِع أنتَ طريقك. إنَّه الشاهد. يُجاهرُ بإيمانه بك. فهو لا يُمثِّلُ فقط لافتة المعلومات التي تدلُّ على الدَّرب. إنَّه يَستَعمِل اللَّهجة اللَّازمة لإقناع تلاميذه وحَثِّهم على أن يَتَحرَّكوا ويتَّخذوا الطَّريق لاتِّباعك، أليسوا مع ذلك، من المُقرَّبين إليه؟ من تَلَقَّوْا تعاليمه، من تَفَانَوا في خدمته؟ من كانوا الأكثر وفاءً، والأحبَّ على قلبه؟ دورُ يوحنا يتوقَّفُ ليفسح لك المكانَ كلَّه. لا بدَّ له مِن أَن يَصغُرَ وحتى أن يتوارى، ولا بُدَّ لك من أن تَكبُر، أنت نور العالم. لا تبرير لوجوده إلا لتحضير مجيئك. والآن كي يختَتِم دوره يشيرُ إليك. أنت “حملُ الله” الذي أعلن عنه الأنبياء، لقبٌ مسيحاني! أما يَصفُكَ أشعيا بالعبدِ المُزدَرى، عُومِل بقسوة فتواضَعَ ولم يفتَح فاه كَحَمَلٍ سِيقَ إلى الذَّبح، صامِتاً أمامَ الَّذين يَجُزّونَه”؟ (اشعيا ٧/٥٣) . يَحدُثُ أنَّه في اللُّغة الآرامية، لغتك ولغة يوحنا المعمدان كلمة “طليا” تدلُّ على الحمل والعبد معًا. ويَرمز الحمل إلى البراءة والطَّهارة والخضوع. هذه صفاتك بالذات، أنتَ البريء الطاهرُ الذي لا لومَ فيه ولا خطيئة، وقد ارتَضَيتَ أن تكون عبد الله أبيك، لِتُحَقِّقَ وعدَه بمخلّصٍ يَغسِلُنا من خطايانا، ويَفتَدينا بثمن حياته. أنت تُحَقِّقُ مَا رَمَزَ إليه الحَمَلُ الفصحي : الانعتاق ولكنَّ “الانعتاق” الذي تمنحنا إياه لا صلة له بالتَّحرير من عبودية شعبك في مصر. “أنت حمل الله الحامل خطايا العالم، الحمَلُ المُنتَصِر حتى على جَلّاديه، لأنَّه بِموتِهِ افتَداهُم! أنتَ الحمَلُ الذي يَرفَع أمام الله خطايا البشرية جَمعاء، خطايا كلّ الأجيال منذ بدء العالم حتى انتِهاء الأزمنة”.
لقد انتَزعتَ خطايانا وحَرَّرْتَنا بتضحية ذَاتِك. هذا ما يجعلنا نُنْشِدُ ليلة عيد الفصح: “فأينَ غَلبتُك يا موتُ؟ وأين شوكتُك يا جحيم؟ ( ١ کورنتس (٥٥/١٥)”
يا لَهُ من وحيٍ غريب!
يأتي بعدي رجلٌ قد تقَدَّمَني، لأنَّه كان من قبلي: كيف يُمكن أن يقول يوحنا المعمدانُ أنك أتيت قبله، ويكبرُك بستة أشهر؟ بالطبع لا يتكلَّمُ يوحنا في هذا السياق عن سِنيّ العمر. بقوله هذا يدلّ على من نزل عليه الرّوح القدس. يُشيرُ إلى أنَّك ابن الله، الله بالذات الكائن قبل كل شيء. إنَّه يعترفُ بجهله. وقبل أن يكشِفَ الروحُ القدسُ طبيعتك الإلهية، تحتَ أعراض الطبيعة البشرية، لم يكن يعرفُك بالمعنى الكامل للكلمة حتى ولو أنَّهُ شعرَ فيك بطهارةٍ فائقة وقداسةٍ كاملة، وموَّدةٍ إلهيةٍ قوية، ولم يَتَيَقَّن مِن أنَّك “المَشيحُ” من نال المسحة، إلا عندما رأى الروح ينزِلُ ويستقرُّ عليك، وتكتسي الكلمات الثلاثُ المعنى ذاته. وها أنتَ إذن، المسيح الذي طال انتظاره، ولكن يختلفُ كُلِّيًا عمَّا يتصوَّرُه الشعب! يُشار إليك على مرأى من الجميع، والإيمان بك في متناول كلّ إنسان.
لِنُصَلِّ:
يا رب، ليتَنا نتمكَّن مثل يوحنا المعمدان: “أن أشهد لك”. “إنَّه هو ابنُ الله!” سيعني ذلك أننا “نُطلِق اليد” للروح القدس لِيَعمَل فينا، إنَّنا نَسمَح له بأن يُغَيّرنا ويُحَرِّرنا من كلِّ انطواءٍ على ذاتنا، من كل أنانِيَّتنا، من قِلَّةِ إيمانِنا وثقتنا. أهِّلنا لنعيشَ كلّ يوم في استِسلامٍ تامٍ لإلهاماتِ روحِكَ. امنَحنا الأمانة للصّلاة والسّجود، امنحنا أن نُمارِسَ سرَّ المُصالَحة، أن نتناولَكَ كُلّ يوم، في سرّ القربان:
” يا حملَ الله الحامل خطايا العالم، ارحمنا!”.
تأمّلات روحيّة من كتاب الإنجيل في صلاة للأب منصور لبكي.