جوزف القصيفي
بعد جلستين إنتخابيتين لم تخلوا من مفاجآت ومناورات إنتخب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية، كما كان متوقعاً، وكانت فرصة الساعتين التي أعطاها رئيس المجلس النيابي نبيه برّي مخصّصة للتشاور والحصول على إيضاحات تتعلق بمستقبل العلاقة بين الثنائي الشيعي والعهد الجديد، والتي تتناول العديد من الملفات الدقيقة والشائكة التي تتصل بقضايا حيوية ومصيرية. إيضاحات أقرب الى الضمانات يرى الرئيس برّي ضرورة توافرها، لكي تسلك الامور المسار الصحيح. والدورة الثانية التي حملت العماد عون الى سدّة الرئاسة أوحت بان تفاهما قد حصل وأن البلاد ستكون مقبلة على مرحلة من التعاون بين المكوّنات السياسية على إختلافها من أجل وضع حّد نهائي للازمة المستفحلة.
لم يكن إنتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيسا للجمهورية مفاجئا واسمه لم يسقط بالمنطاد على المشهد السياسي، وكان متداولا به قبل حرب ” طوفان الاقصى” ومعركة ” إسناد غزة”، ومن ثم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان وما خلفته من دمار هائل.وقد جاءت هذه التطورات الدرامية لتعزز قناعة دولية -عربية بانتخابه، لأنها وجدت فيه مواصفات رجل المرحلة، ولانه وفد من المؤسسة العسكرية التي حافظت في السنوات العجاف التي مرت بلبنان على تماسكها وواجهت ما تعرضت له من تحديات بثبات.
والرئيس عون هو قائد الجيش الخامس الذي انتخب رئيسا للجمهورية، وصادف أن ثلاثة منهم على الاقل بلغوا هذا المنصب بعد أحداث استثنائية عصفت بالوطن، إنطلاقا من المكانة الاعتبارية والوطنية للمؤسسة التي كانوا على رأسها. وليس في سجل الرئيس المنتخب الشخصي ،ولا في مسيرته العسكرية إلا ما يحمل على الاحترام له والاقرار بنزاهته. ويرى من هو على معرفة وثيقة به انه بعد خطاب القسم،كما كان في قيادة الجيش،لكل لبنان واللبنانيين، ولن يترك للاهواء او للحسابات الضيقة مجالا للنفاذ إلى أسلوبه في التعاطي مع الملفات والقضايا. ولن يكون إنتخابه ذريعة لأي تفسير يحاول اي طرف تسويقه بادعاء غلبة فريق على فريق، أو إنتصار فئة على فئة، لأن الكتاب سيكون هو الفيصل والحكم في قضاء الأمور على غرار سلفه الرئيس فؤاد شهاب الذي كان يحلو له تسمية الدستور ب” الكتاب”. وانطلاقا من ذلك يتساوى لديه من خاض معركته منذ اللحظة الأولى، ومن وجد أن مصلحته في انتخابه تتقاطع مع الأجواء الخارجية والداخلية التي واكبت الاستحقاق ، ومن عارض انتخابه،وقبل عن سابق تصور وتصميم ما سيرتب عليه موقفه من نتائج.
وأمام الرئيس المنتخب مجموعة من الملفات الملحة التي لا تحتمل التأجيل، وفي مقدمها الانسحاب الاسرائيلي من المناطق المحتلة في الجنوب إنفاذا لقرار مجلس الأمن الدولي ألاخير، والا يبقى يوما واحدا بعد السابع والعشرين من كانون الثاني الحالي، لأن من شأن الرفض الاسرائيلي أن يعطي ذريعة للمقاومة لاستئناف عملياتها تحت عنوان” مواجهة الاحتلال” وهي ذريعة مشروعة تستند إلى القوانين الدولية. وهذا يعني العودة إلى دوامة العنف والتوتر. وهناك ملف آخر بالمستوى نفسه من الاهمية ويتمحور حول إعادة إعمار ما دمرته إسرائيل، وقد تعهدت به دول أجنبية وعربية كانت الداعم الأساسي لانتخابه. وأن عدم الايفاء بالعهود والوعود ستكون له تداعيات سياسية واجتماعية لا تخدم العهد الجديد في بداية إنطلاقته.
إلى ذلك، فإن موضوع إعادة بناء الدولة واقالتها من عثارها، سيكون الهم الاول بدءا من تشكيل حكومة برئاسة شخصية إصلاحية قادرة على التناغم والتفاهم مع رئيس الجمهورية،وتضم وزراء من خارج منطق المحاصصة الذي ساد حكومات ما بعد الطائف مشهود لهم بالكفاية ونظافة الكف، وذلك للشروع ب ” نفضة” شاملة تطال إدارات الدولة واجهزتها التي ادركها الترهل، وتفعيل الأجهزة الرقابية، وإصلاح القضاء بضمان استقلاليته بقانون عصري لا مجال فيه لأي إجتهاد. على أن الأكثر أهمية هو إعادة ثقة الشباب الذين هجروا لبنان قسرا ويأسا بوطنهم، واقناعهم بالعودة وتوظيف ادمغتهم وطاقاتهم في خدمته وتطويره ليصبح بلدا عصريا، والاثبات بأنه لا يزال يزخر بالفرص اذا احسنا استثمار قدراته والإفادة من ثرواته المتنوعة. وثمة أمر يجب ايلاؤه ما يستحق، وهو مسألة الودائع والخوف من ضياعها نهائيا وحرمان اصحابها منها من خلال فذلكات وترتيبات تشرع عدم استعادتها باقتطاع نسب مرتفعة منها.وهي مسألة حيوية تعني الشريحة الأكبر من الشعب اللبناني.
لا يخفى على أحد أن الرئيس جوزف عون لا يحمل فانوسا سحريا، ولا يمتلك خاتم ” شبيك”، يسأل فيطاع، أو يطلب فيستجاب له فورا، لكنه من أهل العزم، وقد قال المتنبي :” على قدر أهل العزم تأتي العزائم” . الملفات امامه كثيرة والمشكلات متشعبة، والخيوط متداخلة ، لكن ألاهم أن إرادة العمل موجودة ،وهو لن يجترح المعجزات إذا واجه مقاومة ضارية كالتي واجهها أسلافه قبل الطائف وفيه ،وأن المطلوب في هذه المرحلة الدقيقة والخطيرة التعاون بين جميع المكونات،لأن الوطن هو الذي يحتاج إلى إنقاذ ولن يستطيع اي منها النفاذ بريشه إذا كبت المسيرة. الرئيس جوزف عون عريض المنكبين، صلب في مواقفه، والتحدي أن يكون لكل لبنان ولكل اللبنانيين، وهو سيكون كذلك، لأنه ابن مدرسة تدرك عظمة ما يمثل لبنان الواحد، وما تعنيه وحدة ابنائه.