الإنجيل بحسب القديس يوحنا
يو ١/١-٨
المقدمة
في البَدءِ كانَ الكَلِمَةُ والكَلِمَةُ كانَ لدى الله. والكلمة هو الله. كان في البدء لدى الله. به كانَ كُلُّ شَيْءٍ وبدونِه ما كانَ شَيْءٌ مِمَّا كان فيه. كانَتِ الحياة والحَياةُ نورُ النَّاس. والنُّورُ يُشرِقُ في الظُّلُمات ولَم تُدركه الظُّلُمات. ظَهَرَ رَجُلٌ مُرْسَلٌ مِن لَدُنِ الله اِسْمُه يوحَنَّا جَاءَ شاهِداً لِيَشْهَدَ لِلنَّورِ فَيُؤمِنَ عن شَهادتِه جَميعُ النَّاسِ. لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشْهَدَ لِلنُّور .
الحقَّ يُقالُ يا رب، إنَّه عندما يكتب رسولُك الحبيب يوحنا، يبدو أسلوبُه للبعضِ غامضًا بعضَ الشيء: فهو لا يأتي على ذكر أحداث آيات الشِّفاء والأمثال المعروفة. يَصعُبُ تبسيط فهمُهُ “لِعامَّة الشعب”، غير المُلِمِّين بالعِلْم الرُّوحاني، وقد وصَفَ كليمنَص الإسكندري إنجيل يوحنا بـ”الغازي” أي روحيّ مَحض. نحيا لدى قراءته في جَوٍّ من التَّأمُّل المُتواصِل، نَشعرُ بالسَّكينة والسَّلام والاستِسلام لروحِك. يُقدِّمُكَ يوحنا كمن يكشِفُ لنا حقيقة الله، لأنَّك تتكلَّم عن خِبرة. أنت تَجعلُه مرئيًّا وحتى قابل الإدراك وَبِفَضلِ بشريَّتِك المرئيَّة، يتسنَّى لنا أن نُبصِر اللَّامنظور.
“في البدء كانَ الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله” . منذ البدء أنت في الآب، مُتَّحِدٌ معه. منذُ البدءِ تَمكُثُ في مَسكنٍ هو الرّوح. نعم، الرُّوحُ هو مسكن: “لدى الله”، وفي هذا المسكن يَتِم تَبادُل المحبَّة.
أتأمَّلُ بكَ على مثالِ يوحنا، أَسمُو مَعَه في الأجواءِ العُلويَّة قبل أن أكتَشِفَ بِحُزنٍ أنَّك أنتَ الحياة، أنت نور العالم، أنت المُشرقُ في الظُّلمات، أتيتَ إلى العالم الذي هو ملكُكَ، الَّذي خَلَقْتَهُ، أتيتَ إلى شعبٍ قد اختَرتَهُ، إلى خاصَّتِك ولم يُحسِنوا استِقبالَكَ. إنَّ الذينَ توجَّبَ عليهِم أن يَبْتَهِجوا لِمَجيئِكَ، من حافظتَ عليهِم كونُهم شعبك وأرضَك “أساؤوا استقبالك”. مع أنَّهُم خاصَّتُك، عَمَلُ يَدَيكَ، أنتَ من جَبَلْتَهم وَبِفَضلِكَ أمْسَوا بالفِعل شَعبًا. إنَّهُم يَدينونَ لك بِكُِّل شيء: أرضِهِم، شرائعِهِم، فكرِهِم وثقافَتِهِم، وحتى تفاصيل حياتِهِم اليوميَّة. تَدَخَّلتَ بأدقِّ أحداثِ تاريخِهم: كلُّ شيءٍ نُظِّمَ بِكَ ولَكَ… وحين أتيتَ، رُذِلْتَ خارجَ مُلكِك.
أتصوَّرُ مُحسِناً استقبَلَ بِكلِّ محبَّةٍ طِفلاً مَتروكاً، فأحسَنَ تَربيتَهُ، حتَّى أضحى إنسانًا كاملاً: مُهَذَّبًا ومُثَقَّفًا. غَمَرَهُ بالخيرات والهدايا النَّفيسة وأسكَنَهُ قصرًا. وحين قَرَّرَ أن يَزورَهُ كي يَستَفسِرَ عن أحوالِهِ، وَيُوفِّر له حتى النهاية كلّ حاجاتِه، رأى نَفسَهُ مَطرودًا وقد صُدَّ البابُ في وجهِه. نُصادِفُ في عالمِ اليوم من أمثالِ هؤلاء النَّاكِري الجميل، الَّذين بعد أن تَنَعَّموا بِعطايا الأشخاص ذَوي الأيادي الخَيِّرة، لا يَكتَفونَ بِعدَمِ شُكرِهِم وحَسْبُ، بل يَتَمادَون في نكرانِ الجميل، إلى حدِّ إرهاقِهِم بالشَّتائم وَنُكرانِهِم، وحتى إلى قَتلِهِم أحيانًا.
إنَّ المحبَّةَ التي رفَضَتْها خاصَّتُكَ، أرفُضُها أنا أحيانًا. محبَّتُكَ تَقِفُ على بابي ولا أفتَحُ لها. وَيعظُمُ ذنبي ولا سِيَّما عندما أُدرِكُ أنَّ “غرباء”، أُناسًا عاشوا بمنأى عنك من دونِ أن يعرفوكَ، سَيَستَقبِلونَكَ وينعمونَ بِمحَبَّتِك. سَتُصَيِّرُهم أبناءَ الله وَسَيَتَقَدَّمونَني إلى ملكوتك.
لِنُصَلِّ:
إنِّي أسجُدُ أمامَ قدميكَ، لا تَسْمَحْ بأن أرفُضَ نِعمَتَكَ. أن أُصبِحَ ابن اللَّه على مِثالِكَ، إبن الآب! إِنَّه لَجنونٌ، حلمٌ وَوَهم؟ ومع ذلك من رآكَ فقد رأى الآب. أنت، أنت إبنه منذ الأزل، وأنا إبنه منذ اللَّحظة الَّتي أؤمِنُ بك، أو أستَقبِلُكَ في داخلي كونَكَ الكلمة ونوري. فَأُصبِحُ ابن الله إلى الأبد. ونحنُ، أنت وأنا نصبحُ “أزلِيِّين”. ولكن أنتَ بِصِفَتِك الإلهيَّة، وأنا لأنَّكَ ارتضيتَ أن تَهَبَني البُنوَّة الإلهيَّة. يا رب إنِّي أستَقبِلُكَ، أنتَ الكلمة المُتَجَسِّدة في الإفخارستيا. فأشعرُ بحالةِ انصِهارٍ كُلّيّ : “لستُ أنا من يحيا، بل أنتَ تحيا فِيَّ. وهكذا أريدُ أن أحيا وأموتَ.. لأحيا معكَ إلى الأبد”.
تأمّلات روحيّة من كتاب الإنجيل في صلاة للأب منصور لبكي.