رجال حول بلدتي
الشيخ محرم العارفي
1947 – 2000
“الضعيف القوي”
أخي إن ذرفت علىّ الدموع وبللّت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تليد
أخي إن نمُتْ نلقَى أحبابنا فروْضاتُ ربي أعدت لنا
و أطيارُها رفرفت حولنا فطوبى لنا في ديار الخلود
أطل علينا، في صبيحة يوم خريفي، من باب غرفة الصف المتوسط الأول، شيخ ضعيف البنية قصير القامة يعتمر عمّة صغيرة، جاء من مدينة صيدا ليدرّس مادة التربية الاسلامية التي خصصتها وزارة التربية الوطنية، ساعةً في الأسبوع، خيًّل اليَّ للوهلة الأولى أن هذا الشيخ صغير ولم أدرك في حداثة سني أن الانسان يقاس بفكره ورجاحة عقله وليس بحجمه وقامنه…
ومع مرور الأيام إكتشفنا سعة هذا الرجل وعلمه… توطدت علاقتنا به، وتطورت صلاتهُ بنا من مدًّرس لمادة دينية في المدرسة الى شيخ محاضر في زوايا مسجدنا الجامع الكبير في بلدتنا المحروسة… أحبه الكبير والصغير لسلاسة أسلوبه وفن تعاطيه مع الناس، وعذوبة صوته في ترتيل القرآن الكريم…
وتتوالى الحقب والشيخ يواصل رسالته السماويه دون كلل أوملل … حتى وقع الإجتياح الsرا ئيلy للبنان صيف العام 1982 وسمعتا عبر الاثير بالمواقف الصلبة والخطب الجريئة التي كان يلقيها من على منبر مسجد “بطًّاح” وسط الأحياء القديمة لعاصمة الجنوب التي عاث بها العدو دماراً، في مسجد “بطاح” من هناك بطح الاحتلال، من المسجد الشريف حيث خرج أول المkاومين الشهداء…
لم تنههِ ولم توثر به الرسائل الموجهه لتدجينه، أو تطويعه، وبعد فشل كل المحاولات ترغيباً وترهيباً… إقتيد الى أحد مراكزالإحتلال في سرايا المدينة… إنتزعوه من بين اترابه ومن على محرابه، ليس للتحقيق معه فحسب بل للمفاوضة والمساومة ليخفف من حدة المواقف العدائية للعب رانيين على حد تعبير احد قادة العدو يومها، لكن إرادته كانت تصدح في الأرجاء ” ربُ السجِن أحب اليَّ مما يدعونني إليه”…
من سجن “أنصار” الى سجن “عتلبت” بين السجن والسجن كان جليسهُ القرآن الكؤيم، يرتلهُ آناء الليل وأطراف النهار وكانت سيرة النبي الكريم”ص” والصحابة وبطولاتهم نعمَ الجليس والسمير…
مرَّت أعوامٌ ثلاثة وهو في الأسر، خرجَ بعدها أقوى مما كان علبه، صلباً لايلين، ليستقبله الاحباب والمريدون، عاد الى محرابه، وبين اترابه… ليقف من جديد وبعزمٍ أشد… وقف خطيباً في الجموع معاهداً ومشجعاً على السير في درب ذات الشوكة ومهما غلت التضحيات، من أجل الحرية والكرامة فداءً لفلSطyن
والصلاة في ثالث الحرمين الأسير الأكبر…
زرته في منزله المتواضع وأجريت معه عدة مقابلات صحفية …
وذات صباح أجريت اتصالاً هاتفياً بمنزله فقالوا لي ان الشيخ غير موجود في البيت… ومع انتصاف النهار رنَ هاتفي المحمول وكان فضيلته على الخط وبعد السلام والاطمئنان طلبت منه إجراء سلسلة أحاديث لتكون
مشروع كتاب…
أجابني بالقول أقدر بادرتك الكريمة … ولكن لا استطيع السير بهكذا مشروع لاسباب شخصية بحته..
وعلمت فيما بعد عن إصابته بمرض عُضال… ما يلزمه علاجات مستمرة في المستشفى…
الشيخ الضعيف البنية ذو العمة الصغيرة الرجل الكبير، الذي علمني في المدرسة وعرفته لغترة طويلة فيما بعد، حطَّمَ المرآة بوجه الغازي ومحا صورته المصطنعة بصلابة إيمانه. وقوة موقفه…
قويُ أكثر مما استوعب عقلي الصغير حينها… لكنني اليوم أستذكر لحظات عمره الأخيرة، ” شيخُ ضعيف يقتات المرض من لحمه ودمه ولا يقول الاَّ ما يرضي الله، شيخ ضعيفٌ قوي، قويٌ ضعيف – مضى الى القوي العزيز الذي لايضعف أبداً”…
ايها الشيخ الجليل لك في اعناقنا أمانات سنؤديها لك في الحالكات.
طيب الله ثراك، وحشرك في جنات النعيم مع الانبياء والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
المحب فادي الغوش