للمرة الثانية خلال العام 2024، يصدر مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً يدين النظام الإيراني على خلفية عدم تعاونه الكامل مع الوكالة في ما يتعلق ببرنامجه النووي. قرارٌ قدمته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، دعا إيران إلى تقديم تفسيرات واضحة بشأن وجودٍ لآثار اليورانيوم في موقعين غير معلنين في ورامين وتورقوز آباد بحيث امتنعت طهران عن تقديم أي تقارير حول هذين الموقعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية. فهل دخلت معركة تحجيم النفوذ الإيراني حيز التنفيذ؟
قرار مجلس الحكام
تضمن القرار الصادر عن مجلس الحكام التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية نقاطاً عدة رئيسة تتعلق بسلوك طهران حيال برنامجها النووي:
- وقف تخصيب اليورانيوم: يجب التوقف فوراً عن تخصيب اليورانيوم إلى مستويات تتجاوز 60%، بحيث أن هذه النسبة تعتبر أعلى بكثير من احتياجات الطاقة النووية السلمية، ما يثير القلق بشأن نية طهران العسكرية.
- الشفافية بشأن المواقع غير المعلنة: يُطلب تقديم تفسيرات بشأن آثار اليورانيوم المكتشفة في مواقع غير معلنة، كذلك السماح للمفتشين الدوليين بالدخول إلى هذه المواقع للتحقق من طبيعة الأنشطة النووية.
- العودة إلى الالتزامات: دُعيت إيران للعودة إلى الالتزام الكامل بالاتفاق النووي الذي يشمل تقليص تخصيب اليورانيوم وإدارة مخزونه بصورة تتوافق مع القيود المفروضة في الاتفاق.
- الضمانات المتعلقة بالتعاون الكامل مع الوكالة: ينبغي على إيران التعاون بصورة كاملة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من خلال توفير إمكان وصول المفتشين إلى المواقع والمعلومات التي تساعد في تقييم طبيعة برنامجها النووي.
إنفعال النظام
على وقع تزايد الضغوط الدولية على إيران لتمكين المفتشين من الوصول إلى جميع المواقع النووية لضمان اقتصار برنامجها النووي على الأغراض السلمية وحسب، إذ إنه وفقاً للتقارير السرية الواردة، زادت طهران من مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى مستويات تقترب من الدرجة العسكرية، ما يثير المخاوف بشأن احتمال انحراف برنامجها النووي نحو تصنيع الأسلحة النووية، فقد هدد المسؤولون الإيرانيون، لا سيما كاظم غريب آبادي نائب وزير الخارجية، بأنه إذا تمَّت إعادة فرض العقوبات الدولية، بما في ذلك تفعيل آلية “سناب باك”، فإن إيران ستنسحب فوراً من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
كذلك ألمحت طهران إلى اتخاذ خطوات تصعيدية مثل تسريع تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أعلى من الدرجة العسكرية، ما يظهر بوضوح إصرار إيران على عدم الامتثال للضغوط الدولية واستمرارها في برنامجها النووي، في حين تؤكد تمسكها بالقدرة على التلاعب بموازين القوى للحصول على مكاسب أثناء المفاوضات.
مسار المفاوضات
على الرغم من اختتام المفاوضات بين إيران والدول الأوروبية في جنيف بتأكيد استمرار التشاور والتفكير المشترك وحدوث بعض التقدم في معالجة القضايا النووية، إلا أن مسؤولين في المخابرات الفرنسية والبريطانية حذروا من إمكان إنتاج طهران أسلحة نووية في الأشهر المقبلة.
وبحسب الديبلوماسيين المشرفين على المفاوضات، فإن مسألة البرنامج النووي المثير للجدل قد تؤدي إلى مزيد من الضغوط للتوصل إلى اتفاق أكثر جدية وهو ما أثير أمام الادارة الجديدة لدونالد ترامب، فالمفاوضات مع أوروبا من دون الولايات المتحدة لن تصل إلى نتيجة على اعتبار أن أوروبا غير قادرة على رفع العقوبات عن طهران وفقاً للإيرانيين.
إن الهدف النهائي للغرب في هذه المرحلة ليس التفاوض وحل المشكلات والتفاهم مع إيران بشأن القضية النووية أو خلق إطار للحوار حول الادعاءات الكاذبة بشأن قضية أوكرانيا، بل عملية خبيثة لتسلية إيران وكسب الوقت لتوجيه ضربة أشد لبلدنا بحسب مقربين من خامنئي.
يبدو أن مسألة “آلية الزناد (snapback)” في العلاقات بين أوروبا وإيران تلوح في الأفق. ففي العام 2020 عارضت ثلاث دول أوروبية خطة إدارة ترامب لتفعيل الآلية لكنها هددت غير مرة باستخدامها في الأشهر الأخيرة. “آلية الزناد” هي عملية تسمح للأطراف المتعارضة في خطة العمل الشاملة المشتركة بإحياء العقوبات المعلقة بموجب القرار 2231 في حال وجود نزاع بشأن تنفيذ هذا الاتفاق، لذا حذرت إيران من استخدام هذه الآلية لتحقيق أغراضٍ سياسية وهددت باحتمال تغير العقيدة النووية الايرانية أيضاً.
أما ما اتفق عليه اليوم في جنيف، فإن المحادثات بين الوفد الإيراني وممثلي الدول الأوروبية الثلاث ستُجرى بحضور ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي وغياب ممثلي الولايات المتحدة وروسيا والصين بحيث تعقد السلطات الإيرانية الأمل على التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي قبيل دخول ترامب البيت الأبيض في 20 كانون الثاني 2025 بهدف تجنب مواجهة قاسية مع الادارة الجمهورية القادمة.
ردود محتملة
استناداً إلى تجارب سابقة في تعامل النظام الايراني مع الضغوط الدولية، يمكن توقُّع سيناريوهات عدة قد يلجأ إليها في المستقبل:
- تصعيد الأنشطة النووية: قد يسعى النظام الإيراني إلى رفع مستوى تخصيب اليورانيوم أو تركيب أجهزة طرد مركزي متقدمة لزيادة الضغط على الغرب في المفاوضات المستقبلية. هذه الخطوة قد تهدف إلى إظهار قوة إيران النووية أمام المجتمع الدولي.
- استمرار اللعب بين المفاوضات والمواجهة: من المتوقع أن يتبع النظام استراتيجية مزدوجة تشمل التفاوض المحدود مع القوى الغربية في مقابل الحفاظ على أنشطته النووية. في هذا السيناريو، قد يرسل النظام إشارات إيجابية للتفاوض، مثل التعاون مع الوكالة أو التفاوض مع الأوروبيين، في حين يستمر في زيادة أنشطته النووية.
- التقارب مع القوى الشرقية: تعتبر علاقات إيران مع الصين وروسيا من العناصر الأساسية في استراتيجيتها. ففي حال تصاعد الضغوط الغربية، قد تسعى طهران إلى الحصول على مزيد من الدعم السياسي والاقتصادي من هاتين الدولتين.
- زيادة التوترات الاقليمية: يمكن للنظام الايراني تصعيد الأزمات في المنطقة عبر استغلال أذرعه الاقليمية في لبنان والعراق واليمن وفلسطين. هذه الخطوة تهدف إلى تحويل الانتباه عن ملف إيران النووي وإظهار قدرة طهران على تهديد الاستقرار الاقليمي، إلا أن هذا الاحتمال يبدو شبه مستحيل في لبنان مع دخول “حزب الله” في هدنة عسكرية مع إسرائيل، أما في سوريا فالقوات الايرانية وحلفاؤها يواجهون تحديات وجودية مع انفجار أحداث عسكرية غير متوقعة في حلب.
- تعزيز المقاومة الداخلية والخارجية: على الصعيد الداخلي، قد يروج النظام لمفهوم “المقاومة الاقتصادية” لمواجهة العقوبات في محاولة لتخفيف الآثار السلبية على الشعب الإيراني. أما على الصعيد الدولي، فقد يسعى النظام إلى الترويج لنفسه كضحية تسعى إلى السلام، وذلك لكسب تأييد دولي لتخفيف الضغط.
تفاعل المعارضة
يبدو أن التحدي الأكبر الذي يواجه النظام الإيراني اليوم هو الوضع الداخلي، فإيران تشهد حالة من الاضطرابات الداخلية على وقع تزايد الاحتجاجات والانتفاضات ضد النظام الحاكم. ولا شك في أن هذا الأمر يشكل تهديداً حقيقياً قد يؤدي إلى انهيار النظام في حال استمرت هذه الاضطرابات. وحتى الآن فقد اعتمد النظام على إجراءات قمعية مثل تعزيز الأمن وزيادة الإعدامات، لكن هذه السياسات قد تؤدي إلى تأجيج الاحتجاجات بدلاً من إخمادها.
ففي سياق تصاعد الضغوط الدولية وصدور قرار مجلس الحكام، اعتبرت المعارضة الإيرانية أن هذا القرار يثبت صحة مواقف المقاومة التي كانت أول مَنْ كشف عن برامج الأسلحة النووية للنظام في العام 1991، وأخذت على عاتقها مواصلة الكفاح السلمي عبر حشد الدعم والتأييد الدولي لإرساء نظام ديموقراطي في إيران، لذا واظبت على فضح خداع النظام للعالم على مدى هذه العقود، وتطالب بتفعيل آلية “سناب باك” لإعادة فرض العقوبات الدولية ضد هذا النظام الثيوقراطي.
من المحتمل أن يعتمد النظام الإيراني استراتيجيات متوازية عدة في الفترة المقبلة، منها تصعيد الأنشطة النووية لزيادة الضغط على المجتمع الدولي، كذلك تعزيز علاقاته مع القوى الشرقية لمواجهة العقوبات الغربية. مع ذلك، فإن الوضع الاقتصادي المتردي والعزلة السياسية يمثلان تحديات كبيرة تواجه إيران في المستقبل. أما بالنسبة الى الأزمة النووية، فإن تصاعد التوترات قد يؤدي إلى تصعيد غير متوقع في العلاقات الدولية.
لبنان الكبير