أبعد من” ضمان أمنها”: إسرائيل تحاصر الشيعة لإضعافهم

جوزف القصيفي

لم يعد سقف الحرب الإسرائيلية على لبنان محصورا بتوفير الحماية للمستوطنات الشمالية للكيان العبري ، بل أن لها إرهاصات سياسية، وتداعيات ديموغرافية الغاية منها محاصرة الشيعة واضعافهم في المعادلة الوطنية والسياسية، بما يستبقي للمستقبل بعضا من الجمر القادر على إعادة الحماوة إلى الرماد اللبناني الذي سيكون مركونا في نفوس أبناء طائفة كبيرة وذاكرتهم. ومما يثير القلق هو أن تجارب مماثلة حصلت سابقا في اتجاهات شتى، لم تحمل للبنان الا النار والدمار وتنافر ود في القلوب لا يجبر كسرها، كما الزجاج. عندما اغتالت إسرائيل مسؤول وحدة العلاقات الاعلامية في ” حزب الله” والمستشار الاعلامي لأمين عام الحزب السيد حسن نصرالله الحاج محمد عفيف ، لم يعد هناك أدنى شك في أن إسرائيل لا تسعى الى ضمان امنها بدفع قوات الحزب إلى شمال الليطاني لدرء الصواريخ وابعاد اي خطر مباشر قد يطالها. إنها تسعى لاستئصال الحزب ببجناحيه السياسي والعسكري. فالسيد نصرالله إرتقى وفي اعتقاد تل أبيب أن القضاء عليه يقضي على المقاومة، لكن هذا الاعتقاد لم يعمر طويلا ،لأن” حزب الله”على الرغم من الحرب الضروس وغير المسبوقة في عنفها وشراستها لا يزال يحتفظ بقدرة على التحرك مغالبا ومسابقا المسيرات وطائرات الاستطلاع والطائرات الحربية. إن اغتيال الحاج محمد عفيف يكرس توجهها لتوسيع الحرب، وتجاوز الغاية التي بررت بها الخروج على قواعد الاشتباك، ورفض التقيد بمندرجات قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1701. وقد احصت ” اليونيفيل” 36 الف عملية خرق قامت بها الدولة العبرية برا وبحرا وجوا . وهي وعلى ما يقول محللون لا يمكن أن تقبل بقرار يجعلها تتخلى عن هذا النهج المتمادي، لأنها تصر على إعطاء نفسها حقا لا تمتلكه قانونا، وتريد أن تثبته واقعا على الارض. من هنا تزداد المخاوف من مرامي إسرائيل في التركيز على المناطق الشيعية في الجنوب والبقاع، والضاحية الجنوبية، لتهجير أهلها إلى الداخل من أجل التأسيس لصدام اهلي تتداخل فيه عوامل السياسة والحذر والاقتصاد والقدرة على الايواء، وتتفاعل على نحو يجعل من هذا الصدام واقعا ولو انه مرفوض من الجميع. كذلك ، فإن الوضع سيكون في بالغ الصعوبة اذا ما توقفت الحرب.هناك تأكيدات من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بأن الذين هجروا قسرا سيعودون إلى قراهم وبلداتهم وحياتهم غداة انتهاء الحرب، لكن السؤال المطروح : هل بالمستطاع العودة، وكيف يمكن المكوث في اراض محروقة،ومناطق تعمها الركام؟ ومن أين تبدأ إعادة الاعمار، ومن سيتولاها، وبأي شروط؟ وتعلق اوساط متابعة: صحيح أن اي مكون في لبنان لا يستطيع إلغاء المكون آلاخر، وأن يتعامل معه وكأنه مغلوب على أمره، ولكن الاصح أيضا أن هناك قراءات مغايرة للوضع تحمل البعض على اعتقاد غير ذلك والتصرف على أساسه. وهذا الأمر في بالغة الخطورة لأنه سيراكم الكثير من عوامل النقمة التي قد تنفجر وتتشظى على نحو يهدد الاستقرار العام في البلاد. إن القمة الروحية التي عقدت أخيرا في بكركي أشارت إلى هذه المحاذير، ونبهت ،ولو بصياغات غير مباشرةالى تداعيات محتملة لأي خطأ في الحسابات واختلالات في الموازين. بمعنى أوضح أن جميع القوى سواسية في عين القانون ، ومعايير الواقع ، من أجل تجنيب لبنان مفاجآت أشد خطورة من الحال التي يرسو فيها، أو على الاقل قطع الطريق على اي محاولة لجره إلى ما هو ادهى من الحرب التي تشن عليه. إن إسرائيل تفاوض بالنار وهي تريد أن تحقق شروطها مهما كان الامر، وفي ظنها أن الانهاك بدأ يدرك الحزب وأنه في نهاية المطاف عليه أن يمتثل لهذه الشروط، أو أن ينتظر موعد الحسم النهائي مع ما يترتب على ذلك من نتائج سياسية . وحتى الساعة يبدو واضحا أن إسرائيل لن تكتفي بوقف لاطلاق النار، ولا بترتيبات تضمن تنفيذ القرار 1701، ولا نشر الجيش في منطقة جنوب الليطاني، وحتى إخلاء المنطقة من اي سلاح غير خاضع لسلطة الدولة،بل انها تعمل على إيجاد واقع يضعف حضور ” حزب الله” ودوره جنوبا ، وتاليا على صعيد لبنان لضرب نفوذه السياسي، وهذا التوجه يلاقي تأييدا مباشرا وواضحا من الولايات المتحدة الاميركية، بريطانيا والمانيا الاتحادية، وضمنا من بعض العرب. وثمة من يرى أن واشنطن تمارس سياسة ” قب الباط” والتباطؤ في المساعدة على حلحلة العديد من النقاط العالقة في متن المشروع الذي تقدمت به لوقف الحرب لتفسح المجال لتل أبيب كي تحقق تقدما على الارض يمكنها من إملاء بعض الشروط التي طرحتها وتسعى إلى تضمينها في صلب المشروع. في حمأة العمليات العسكرية التي تسطر بدم اللبنانيين الذين فاق أعداد المدنيين الذين ارتقوا من بينهم اضعافا مضاعفة أعداد المقاتلين للدولة العبرية، والمناورات السياسية التي تستخدم دماء هؤلاء وركام منازلهم للضغط من أجل التنازل والاستسلام، يبدو ” حزب الله” في حصار غير مسبوق، وداخل مربع مسور بالاخطار ، ويعمل على الثبات في أنتظار معطيات توقف اللعبة عند حد معين، ليقرر مرحلة الما بعد، ولذلك ليس امامه الا الميدان يرابط فيه محاولا دفع ما يتعرض له من ضغط.