بعد انتخاب السيد حسن نصرالله امينا عاما لـ”حزب الله” على اثر استشهاد الأمين العام السابق للحزب السيد عباس الموسوي ، دعانا ناشر “السفير” ورئيس تحريرها الاستاذ طلال سلمان لمرافقته إلى المربع الأمني في حارة حريك للقاء السيد المنتخب: فيصل سلمان، غاصب المختار وانا.
لم اتردد في تلبية دعوة الاستاذ طلال والتعرف بالامين العام الجديد الذي ذاع صيته كأحد أركان المقاومة، وابرز قادتها الميدانيين قبل اغتيال سلفه. كان الوصول إلى مقره متيسرا ،فلا إجراءات إستثنائية، ولا حواجز، وكان محيط المقر يعج بالناس الذين يتجولون بملء حريتهم، وكنا نرى الفتيات السافرات الوجوه والمحجبات يتنقلن بين المحال في تآلف أضداد مستحب، مؤكدا ان نوعية الثياب لا تواري مشاعر المودة والالفة، وتقبل آلاخر المختلف.
كان استقبال السيد حسن لنا وديا للغاية، ولم تغب عن اللقاء روح الدعابة عندما قدمني اليه الاستاذ طلال: “هيدا كسرواني وكتائبي كمان”، فرحب بي بحرارة. كذلك عندما أطلق فيصل العنان لنكاته وقفشاته. وكان الكلام عاما تناول ما ينتظر الحزب من تحديات، وعن العلاقة التي ينوي بناءها مع الاعلام. قدم لنا الشاي، وتناول “صينية” مليئة بـ”الشوكولا” و”الملبن” وطاف بها مصرا علينا تذوق الصنفين.
طلب الاستاذ طلال سلمان من السيد حسن أن يخص الجريدة بحديث شامل عن رأيه في الأوضاع السياسية ورؤية الحزب لهذه الأوضاع ومدى استعداده للانخراط في الشأن العام عبر الاستحقاقات الوطنية،فلم يمانع. ولما سأله تعيين موعد للادلاء بهذا الحديث، قال: “بإمكانكم آلان”. عندها التفت الاستاذ طلال إلى الزميل مختار والي طالبا منا البقاء في مكتب السيد وإجراء المقابلة معه، واستعنا بآلة التسجيل الخاصة بمكتبه الاعلامي لأننا لم نتوقع أن يقبل عرضنا فورا. وهكذا تسنى لنا إجراء اول مقابلة معه بعد انتخابه امينا عاما للحزب.
كان الحديث شاملا وشيقا وغنيا ،وعلى قدر من العمق وكانت مناسبة للتطرق معه حول هواجس المسيحيين و”نقزتهم” من “حزب الله” الصاعد وغموض موقفه من العلاقة بهم، فذكر بـ”عهد الاشتر” الذي قال انه يضع إطار للعلاقة بين المسلم وغير المسلم، ولاسيما المسيحي،وأن الحزب لا يسعى إلى فرض الدولة الإسلامية وإقامتها بالقوة لأنه يعرف طبيعة المجتمع اللبناني المركب، وطرحها هو في سياق نظري ينسجم مع العقيدة الاسلامية التي يعتنق، مشددا على أن في رأس أولوياته تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي بكل الوسائل المتاحة. وتشعب الحديث إلى موضوعات شتى تتعلق بالعلاقات الاسلامية- الاسلامية أثارها الزميل مختار.
تميز هذا اللقاء بسبر غور السيد، والوقوف على آرائه من مختلف القضايا، وكان يجيب بلا ارتباك، وبارتياح، وثقة، من دون أن تفارق الابتسامة ثغره. وكان بين الحين وآلاخر يفتح “هامشا” لامرار طرفة او تعليق،من دون أن يغفل ذكر السنوات الطوال التي امضاها في محلة “كمب شرشبوك” بمنطقة برج حمود واتراب له من الارمن الذين قامت بينه وبينهم علائق مودة. ولم ينس ايراد بعض الكلمات بلغة هؤلاء مع ترجمتها دلالة على حنينه للايام التي امضاها في تلك الناحية من شرق بيروت.
واذكر أن السيد كلف احد مرافقيه أن يقلنا إلى جريدة “السفير” في شارع الحمراء لأننا كنا بمعية الاستاذ طلال وشقيقه الزميل فيصل اللذين اضطرا للمغادرة قبل بدء حديثنا معه.
في الجريدة قمنا غاصب وانا بافراغ التسجيل ووضع العناوين الرئيسة والفرعية له، وذيلناه بتوقيعنا نحن الاثنين. فيما توليت كتابة المقدمة بناء على طلب رئيس التحرير، وقد ضمنتها إحاطة شاملة بشخصية السيد ،وقوة حضوره وتماسك خطابه، وخلصت إلى طرح السؤال آلاتي: هل نخاف هذا الرجل او نخاف عليه؟ وقد تناهى الي من بعض الزملاء العاملين في الجريدة والذين هم على صلة به أن “سماحته ممتن من المقدمة”، كذلك من الحديث الشامل.
مضت سنوات قبل أن التقيه من جديد ضمن وفد مجلس نقابة محرري الصحافة اللبنانية برئاسة النقيب ملحم كرم. يومها لم تكن الإجراءات التي سبقت الزيارة بسهولة تلك التي قمت بها مع وفد “السفير”. ولدى شروع النقيب كرم بتقديمي اليه سارع السيد إلى القول: ” استاذ جوزف مش هيك؟” ثم اردف” سمنان شوي او انا غلطان”؟.
وكان حوار شيق وعميق بين الأمين العام لـ”حزب الله” واعضاء مجلس النقابة ومستشاريه، واعجب ببلاغة النقيب وتضلعه من القرآن، وحفظه لآيات كثيرة ونطقها بصورة سليمة.
وثمة لقاءات أخرى مع السيد، لعل اهمها الاجتماع الذي عقد في مكتبه بعد تحرير الجنوب في الخامس والعشرين من أيار 2000 مع وفد من “حزب الكتائب”(الذي استقلت منه في العام 2008) برئاسة الوزير السابق كريم بقرادوني في حضور عدد من أعضاء المكتب السياسي للحزب، ومسؤوليه الاقليميين في الجنوب. كان موضوع البحث وضع القرى المسيحية بعد انسحاب إسرائيل وما يستبد بأهلها المتبقين فيها من هواجس ومخاوف.
كان كلامه واضحا وحاسما: “ممنوع الاقتراب من البلدات المسيحية في الجنوب والبقاع الغربي، وسلامتها أمانة في اعناقنا. وأن اي إشكال او مساءلة تتعلق بابنائها لن يتولاه إلا الجيش اللبناني. لقد سبق أن اصدرت تعليماتي بهذا الشأن، وساعيد تذكير مسؤولينا في المنطقة بذلك”. وشرح لنا باستفاضة كيف جرى التعاطي مع المتعاملين مع إسرائيل الذين وقعوا في الاسر،وتسليمهم جميعا إلى السلطات اللبنانية ليحاكموا وفق القوانين المرعية.كذلك شرح الهدف المتوخى من عبارة وردت في خطابه قبل ثلاثة أيام من تحرير الجنوب. وقد اوردت ملخصا عن هذا الاجتماع في مقالي اليومي بـ”جريدة الكفاح العربي”. وعلمت أن السيد كان عاتبا لنشر الشرح وكان يتمنى لو ظل طيّ الكتمان.
السيد حسن نصرالله كان قائدا استثنائيا شغل العالم بحضوره ودوره واطلالته ” الكاريزمية”، وصلابته ساعة التحديات ومرونته في لحظات التسويات الكبرى، وتواضعه الجم، وعدم المفاضلة بين محازب وآخر. ذهب ابنه البكر هادي إلى الميدان واستشهد على ارض الجنوب، وها هو يلتحق به على طريق القدس بعدما اتمم سعيه وجاهد الجهاد الحسن.
جوزف القصيفي
نقيب محرري الصحافة اللبنانية