أيام مصيرية تفصل بين الحرب المفتوحة والحلّ ؟!
خارطة الطريق نحو المستقبل تشوبها مطبّات عسيرة
لا صوت يعلو فوق صوت “نتنياهو” وحكومته المصغّرة التي تجتمع لتصادق على عمليات سبق أن أعدّت في السابق وجهزّت لتنفّذ في وقت الحسم. اختار التوقيت الذي يناسبه للانقضاض على سلاح المقاومة وبيئة المقاومة وقدرات المقاومة.
استعمل الذكاء الاصطناعي في حرب لم تعد ولن تكون متكافئة. ثمّة ملاحم ستكتب في المستقبل عن الفرق بين 2006 و 2024 … كل شيء تبدّل. لم تعد القوّة للميدان. لم تعد القوّة العسكرية والجسدية والتكتيكية واستخدام العلم العسكري التقليدي ينفع. وبالتالي حتى مفهوم “المقاومة” تبدّل. التكنولوجيا ضربت كل المفاهيم وضربت أيضاً الأخلاقيات وأسس الحرب والقوانين التي ترعاها.
نعم، حتى الحرب فيها قوانين.. لم تحترمها اسرائيل. تنفيذ العمليات المبرمجة “الذكية” من فوق الغيوم وضرب المدنيين والأطفال للوصول من خلالهم إلى “الأهداف” الاستراتيجية الموضوعة… كلّ شيء مباح بالنسبة لحكومة الانتقام من 7 اوكتوبر وتحجيم حزب الله.
لا نقول انتصر المخطّط الاسرائيلي للقضاء على حزب الله، فمن المبكر جداً الحكم في هذا الموضوع. ولن تنتهي المقاومة لكن أسبوع الآلام الذي عاشه جمهور المقاومة كان اسبوعاً قاسياً. فإذا وضعنا جانباً التصفيات باستخدام “المسيّرات” واستشهاد المقاومين في “جبهة الاسناد” الذي تخطّى الـ 500 عنصر وأكثر، أتت ضربة “البيجر” و “اللاسلكي” لتحدث الصدمة الكبيرة في صفوف اللبنانيين وحزب الله… وتكللّت بصدمة عملية “الضاحية” التي أدّت الى استشهاد النخبة من “الرضوان” التي كانت تخطط لعمليات ردّ على ما حصل. كل هذا حصل في 3 أيام. وكل هذا كان أكبر على المقاومة من أن تستوعبه وتمتصّه وتخرج معافاة منه.
أتى الردّ من خلال عمليات نوعية جديدة وصواريخ دخلت في المعركة التي تلاشت خطوطها الحمراء تباعاً، فصواريخ “فادي” التي أحدثت ضرراً كبيراً في العمق الاسرائيلي، كانت ضربة “رفع المعنويات” للداخل اللبناني وللقول بأن القماومة لا تزال قادرة على الرد وأن ضبط النفس الذي مارسه حزب الله طيلة هذا الفترة بعدم الانجرار الى المعركة المفتوحة بلغ حدّه. فالاستهزاء بقدرة المقاومة عسكرياً على الأرض وبقدرتها الصاروخية بلغ حدّه…لم يعد ضبط النفس ينفع أمام حجم الوقاحة الاسرائيلية… فأتى الردّ الكبير… ليلحقه الرد الإسرائيلي الأكبر! لقد حاولت إسرائيل توريط الحزب قبل هذه الفترة من خلال حادثة “مجدل شمس” لكنه لم ينجح بإقناع العالم بتلك النظرية، فصعّد مستوى الهجمات لينتظر بدوره الردّ، ثم الردّ على الردّ… وبهذه العملية سقطت قواعد الاشتباك وبدأت مرحلة جديدة اعتباراً من 20 أيلول وصولاً لليوم.
عمليات معدّة مسبقاً، غارات تخطّت الـ 1200 في أقل من 24 ساعة لضرب أهداف أُعدّت سابقاً ولائحة قد يكون عمرها عشرات السنين. سقط حزب الله في فخ التكنولوجيا العميقة. ذكاء اصطناعي راقب، حلّل، سجّل، جمع المعطيات وأعطى التعليمات لطائرات من طراز F35 وغيرها التي تضرب الهدف بالتحكم عن بعد وأحياناً كثيرة من دون الحاجة إلى طيّار. إنها حرب إحداثيات وتكنولوجيا اتصالات وآلة بوجه إنسان، لا بل آلة بوجه “أرواح”. مهما كانت هذه الأرواح: أطفال، عجزة، مرضى، المهم أن الأهداف التي وضعتها إسرائيل يجب أن تتحقّق. أضف إلى عنصر التكنولوجيا، عنصر بشري مقيت، هو العملاء الذين ارتقى بعضهم إلى درجة الخيانة والتآمر على البيئة التي حضنته. يستحيل أن يصل مستوى الخرق إلى هذه التفاصيل من دون مساعدة ما. وهذا أيضاً ما تمكنّت اسرائيل من فعله طيلة هذه السنوات (ونتحدث عن 2006 إلى اليوم).
أما الحزب الذي راكم القدرة الصاروخية والصواريخ الدقيقة والمسيّرات وتطوير وتجهيز البنى التحتية والقدرة البشرية، وجد نفسه اليوم أمام تحدّ مع الزمن والتكنولوجيا والعمالة في آن. كان يتحضّر للعدو في الميدان، أتاه إلى منزله، إلى عقر داره، إلى بيته وبين أهله. لم تعد المعركة متكافئة. لم يعد الحديث عن الرجال في الميدان والمواجهة والتصدّي يجدي نفعاً في حرب غير متكافئة. كانت وازدادت عدم تكافؤ. سبقنا الزمن وبالتالي حان الوقت لإعادة التفكير في كل المجالات وعلى كل الصعد. (وليس الحديث الآن مناسباً لذلك).
المعركة فرضت نفسها. قد يجادل البعض في ما إذا كان على حزب الله التدخل في حرب الإسناد هذه في 8 اوكتوبر أو البقاء على الحياد. تقديري بأن هذه الضربة كانت ستقع، إن ليس اليوم، غداً، وإن ليس غداً، بعد غد. حجم التحضيرالمهول للضربات وحجم الخسائر والدقّة في إصابة الأهداف لا يوحي بأنها عمليات “ارتجالية” بل أن المعركة كانت ستقع وكان البحث جارٍ عن مسببّات تشعل الجبهات.
ثمّة حتى نظريات في ما إذا كانت 7 أوكتوبر “قبّة باط” اسرائيلية – استخباراتية للوصول إلى ما وصلنا إليه اليوم في غزة واليوم في جنوب وبقاع لبنان. لا نعرف ولن نعرف. تماماً كالنظريات التي لحقت 11 أيلول الأميركي وكل تداعياته في المنطقة.
ما نعرفه اليوم هو أننا في الحرب. في حرب حتى الساعة أسفرت عن حوالي 1200 شهيد و 7000 جريح بين الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. كل حرب تموز على مدى شهر كامل لم تسفر عن هذا العدد من الشهداء والجرحى. في أسبوع واحد سقط في لبنان هذا الكمّ الهائل في دلالة على مستوى الإجرام الكبير والوحشية في الضربات. والسؤال هنا: الم نكن نعلم بأننا سنصل إلى هذه المرحلة في حال اشتعلت الحرب؟ نعم نعلم. كان نموذج غزّة أمامنا واضح. لقد كتبت في اوكتوبر الماضي التالي:
برأينا إن قرار دخول حزب الله في حرب واسعة هو باليد أما قرار الخروج منها أو كيف سنخرج منها فهو غير محسوب. وبكلمتين سريعتين : نموذج الرد الوحشي على غزة سيكون مضاعفاً 10 مرات اذا ما دخل لبنان في الحرب بالعمق لأن لا شيء سيردع اسرائيل كما تفعل اليوم من ضرب لبنان وارجاعه الى العصر الخشبي. وهنا لا بد من القول بأن التريّث في اتخاذ القرار من قبل المقاومة ليس بداعي الخوف إطلاقاً بل فيه الكثير من الحسابات والحكمة. سيناريو 2006 لن يتكرر والظرف الاقليمي والدولي مختلف تماماً. فمعادلة “لو كنت أعلم” هنا أيضاً ليست في الحسبان لأن الكل يعلم ماذا سيحصل والكل يعلم ان لا قدرة للبنان بأن يصمد باقتصاده وشعبه وهو الذي يعاني منذ 4 سنوات من الازمات المتتالية والافلاس على كل المحاور.
أما اليوم فإلى أين ؟ وما هي خارطة الطريق؟
أولاً: المفاوضات النووية وموقف إيران
كان لافتاً الموقف الذي اتخذته كل من الولايات المتحدة وإيران في هذه الحرب. البيت الأبيض صرّح بوضوح أنه لم يكن على علم بالضربات الإسرائيلية المسبقة، في حين جاء تصريح الرئيس الإيراني مدهشاً للبعض، حيث أكد أن إيران تسعى للسلام في العالم وأنها تتابع مسار المفاوضات النووية.
السؤال المطروح هنا: إذا كانت أميركا وإيران متفقتين إلى هذا الحد، فهل هذا يعني أن الحرب لن تتوسع في المدى المنظور؟
الصدمة في الموقف الإيراني تثير العديد من التساؤلات، خصوصاً وأنها تبنت خطاباً هادئاً مقارنة بما يجري على الأرض، ما يشير إلى أن التوترات قد تبقى ضمن حدود معينة دون أن تتفجر في المنطقة بشكل أوسع.
ثانياً: الحكومة اللبنانية
أين هو لبنان الرسمي من كل ما يحصل؟ هناك استغراب شديد لغياب أي دور فعال للبنان في هذه الأزمة. فمع غياب رئيس للجمهورية ليتحدث باسم الدولة ويقود التفاوض، يتحتم على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تحمّل المسؤولية.
ذهابه إلى نيويورك كان “أقل الإيمان”، في محاولة لردع العدوان وإنقاذ ما تبقى من قدرة لبنان على البقاء في هذه الظروف الصعبة. هذا الغياب السياسي العميق يجعل الوضع أكثر تعقيداً ويزيد من الضغط على الداخل اللبناني.
ثالثاً: الاجتياح البري
حتى اللحظة، لم يطرح سيناريو الاجتياح البري بشكل جدي، على الرغم من المخاطر الكبيرة التي قد تواجهها إسرائيل في حال اتخاذها هذه الخطوة. قد تلجأ إسرائيل إلى الاجتياح البري لفرض إبعاد قسري لحزب الله إلى ما خلف نهر الليطاني، وتطبيق القرار 1701 بالقوة.
لكن القدرات العسكرية لحزب الله على الأرض أقوى بكثير مما نراه اليوم في حرب لا تكافؤ فيها.
هل يجرؤ نتنياهو على اتخاذ هذه الخطوة؟ مع اقتراب الشتاء، السؤال الذي يطرح نفسه: هل يناسب إسرائيل القيام بهجوم بري في هذه الظروف؟
الجيش الإسرائيلي يدرك جيداً أن دخول المعركة على الأرض سيلحق به خسائر فادحة، وهو ما لا يمكن أن يتحمله الداخل الإسرائيلي، الذي يعارض أصلاً استمرار التصعيد. لهذا السبب، نستبعد حتى اللحظة الاجتياح البري، خاصة أن إسرائيل تحقق مكاسب من بعيد دون أن تتعرض لخسائر كبيرة بالمقارنة مع الخسائر اللبنانية.
رابعاً: مستقبل النظام السياسي وحزب الله
لا يمكن، ومن المستحيل، أن لا يؤثر ما يحدث اليوم على مستقبل النظام السياسي في لبنان وعلى علاقة حزب الله بباقي الأطراف اللبنانية. من المبكر الحديث عن تغييرات جذرية، لكن ما رأيناه حتى الآن يشير إلى أن حزب الله، رغم خطابه الفوقي وتعاليه في كثير من الأحيان على اللبنانيين، قد شهد ردود فعل متضامنة من مختلف الطوائف اللبنانية تجاه النازحين والمتضررين.
عودة “الابن الضال” إلى الداخل اللبناني باتت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى، خاصة بعد التصريحات الإيرانية التي لا توحي بأن الدعم الإقليمي سيتواصل كما كان، ولا تبدو أن إيران تسعى إلى تصعيد الحرب في المنطقة. لا يوجد مجال سوى العودة إلى “اللبننة”، والعودة إلى حضن الوطن. تحت سقف الدستور اللبناني والطائف.
خامساً: المحاسبة الدولية
يبقى أن نذكر أهمية المحاسبة الدولية على الجرائم المرتكبة في هذا الصراع، لكن السؤال يبقى: عن أي عدالة دولية نتحدث؟ غزة، التي فقدت أكثر من 50 ألف شهيد، لم تحرّك في العالم ساكنا. نأمل أن لا يصل لبنان إلى مثل هذه الأعداد المروعة، وأن تنتهي العمليات في القريب العاجل. لكن، يجب أن ندرس جدياً تقديم ملف ادعاء أمام المجتمع الدولي في أقرب وقت ممكن، سعياً لتحقيق العدالة والضغط على منتهكي القانون الدولي في هذا الصراع.
ملاحظات ختامية
فيما نكتب هذه السطور، حصل تطوراً عسكرياً لافتاً وهو إطلاق صاروخ باليستي باتجاه تل أبيب للمرة الأولى منذ 7 أوكتوبر 2023، المقاومة اعتبرته صاروخاً تحذيرياً لإسرائيل، وهي ربما تعرف مسبقاً أنه سيتم اعتراضه وهو رسالة بأن العمليات لن تتوقف من الجانب اللبناني طالما العمليات مستمرة من الجانب الاسرائيلي. لكن السؤال الأهم: هل يمكن الاستمرار بهذه الوتيرة من الخسارة في البشر والحجر؟ بالتأكيد لا!
كل يوم يمر يزيد من سقوط الخطوط الحمراء وتوسّع رقعة الاستهدافات تعني أن لبنان الرسمي بات في الحرب وليس فقط حزب الله.
حتى الساعة الهدف الاسرائيلي واضح: ضمان عودة سكّان الشمال إلى منازلهم. مقابل ذلك، على حزب الله أن يضمن عودة النازحين الجنوبيين إلى قراهم بأسرع وقت.
هل تنتهي المعركة بفرض هاتين المعادلتين؟ وهل يأتي من يسندنا بعدما أسندنا غيرنا حتى وقعنا في المحظور؟
نحن أمام اسبوعين حاسمين، حتى منتصف أوكتوبر بأقل تقدير، وقد نشهد تطوّرات ومفاجآت على كل الصعد إن لم يتم احتواء ما يحصل بالعمل الدبلوماسي للوصول إلى حلّ لا بد سيأتي.
حمى الله لبنان وشعبه.
فيليب أبو زيد