وديع الخازن*
لعلّها أخطر مرحلة تجتازها شعوب منطقة الشرق الأوسط المنتمية إلى أديان وأعراق متنوّعة، ومختصرها لبنان، حيث يكثر الحديث هذه الأيّام عن متغيّرات إقليمية وفق التصوّر الأميركي لما بعد الحرب على العراق. فأين مسيحيّو المشرق من هذا التصوّر، لا سيّما موارنة لبنان؟
لقد عوّدتنا بكركي أن تكون هي المرجعيّة الأخيرة في الملمّات. ولئن حجبت “حروب الآخرين” في لبنان دورها إلى حين، إلاّ أنها لم تستطع أن تلغي هذا الدور الوطني أو تتنكّر له. وقد أثبتت الكنيسة المارونية بُعداً في النظر عندما عالجت إنفعالات هذه الحرب بالصبر والحكمة.
صحيح أنّ هناك صراعاً اليوم في الطائفة المارونية على صعيد بعض القيادات، إلاّ أنّ هذا لا ينفي الدور الفاعل للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في إعادة التوحيد وترميم الجسور بين مختلف الفئات اللبنانية من خلال تصوّر وطني بعيد كلّ البعد عن الطائفيّة السياسيّة..
لقد جاءت حكمة البطريرك الراعي لتصرّ على التوجّه الماروني الكنسي في الوحدة لأنّ لبنان الوجه الماروني” لا يفيد الشرق أو الغرب، بل لبنان الحضور الماروني هو الذي يجعل من الشرق والغرب ملتقى روحياً حضارياً، وهو ما أكدته الكنيسة الكبرى من روما والكنيسة الصغرى من بكركي. أمّا اليوم فالمارونية المتجدّدة يُفترض أن تكون مقبلة على ديموقراطية منفتحة على عالمها العربي، متحرّرة ومحاورة لتطوير مفاهيم النظام في لبنان بحيث يتلاءم مع متغيّرات العصر ويلبّي حاجات مجتمعه.
يجب أن يدرك الموارنة إدراكاً عميقاً وحقيقيّاً أنّ لبنان لم يُنشأ من “أجلهم بل بسببهم”. لذلك هم مسؤولون عنه قبل أن يكون هو مسؤولاً عنهم لكي يخرجوا هكذا من نطاق المارونية السياسية إلى نطاق سياسة الموارنة.
بعض الموارنة يعتبرون أنّ لبنان، بعد إتفاق الطائف، هو الوطن الذي يشكّلون فيه فاعليّة لا بدّ منها من أجل إستمراره، وليس الوطن الذي وُجد من أجل الموارنة، وتالياً، فهُم باتوا مستهدفين فيه سياسياً من الطوائف الأخرى.
والماروني، في هذا الوضع الجديد، لم يعد مستهدفاً كماروني بل كلبناني. وشتان ما بين أن يُستهدف الماروني كماروني وأن يُستهدف كلبناني. إذ إستهدافه كماروني أمر طائفي في حين إستهدافه كلبناني أمر سياسي، وهو ما يجب أن ينسحب على سائر الفئات التي يتشكل منها النسيج السياسي في لبنان. من هنا أهميّة إخراج الطفرات الدينية وطفيلياتها المرضيّة من الحياة السياسية لنفي هذا الطابع المؤذي.
ولعلّ أفضل مثل على صحّة ما نقول الظاهرة الأصولية. فالذين يحاربون الأصولية الإسلامية ليسوا الموارنة، وليسوا المسيحيين كمسيحيين، بل هم غير الأصوليين في المنطقة على إختلاف إنتماءاتهم المذهبيّة. إذ أنّ محاربة الأصولية ليست عملاً دينياً بل هي عمل سياسي في الدرجة الأولى.
ولا يعتقدنّ أحدٌ أنّ المواجهة اليوم هي بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي، بل إنها مواجهة بين مجتمعات مشرقيّة، الموارنة والمسلمون جزء منها، والمجتمعات الغربية التي تتسم في ما تتسم به بالمسيحية الغربية التي تحاول الصهيونية العالمية إستغلال المشاعر الدينية فيها محاولة توظيفها لصالح الدولة اليهودية. لذلك يترتب على الموارنة أن يتدارسوا سياسة مشرقية هم من أكثر جماعات المشرق أهلية لوضع خطوطها ورسم أبعادها في هذا المفترق المصيريّ..
طبعاً لا يمكن البحث في أزمة الموارنة في معزل عمّا يجري من صراعات طائفية في المنطقة، أو على الأقلّ، من صراع ظاهري بين عالمين. غير أنّ هذه الموجة الأصولية المفتعلة، التي تتوسّل السلطة عبر إحداث هذا الصراع، تواجه ضغوطاً هائلة من الأنظمة العربية، لأنها تريد أن تفرض، أنظمة أحاديّة التوجّه..
ولأن لبنان كان ضحيّة هذه الطفرات في الحرب التي عبثت بشعبه وأرضه، لا بدّ اليوم من أن يعي اللبنانيون، لا سيما الموارنة منهم، خطورة الإنجراف في تيارات يُخيّل إليهم أنها تعيدهم إلى ما كان في متناولهم من سلطة في الماضي. فالسلطة الآن باتت موزعة بالقسطاط بين الجميع غير أن الظروف المتقلبة جعلت البعض يستغل نقاط الضعف عند الموارنة ليستقوي من جديد. وهنا مكمن العلة التي لم يتعلم اللبنانيون من التجارب الماضية الإتعاظ منها.
إن أفضل ما يفعله الموارنة اليوم لحماية دورهم من أجل لبنان هو أن يتحدوا في ما بينهم قبل الإتحاد بالآخرين.
عميد المجلس العام الماروني
وزير سابق