بعدما تقدم التشدد الفلسطيني في مواجهة التشدد الإسرائيلي، مخاوف جدية ان انخرطت القوى الكبرى بما يشكل انهيارا كبيرا للأمن الدولي وسقوط الديبلوماسية الدولية وصولا الى حروب مفتوحة بين العصابات
اوحت الحملات الديبلوماسية التي سبقت “خميس الدوحة” ورافقته أن هناك مسعى دوليا تقوده الولايات المتحدة الاميركية لتحويل هذه “الفرصة الاخيرة” في شأن قطاع غزة وجبهات المساندة لها “مسارا دائما”. وذلك على خلفية السعي الى وقف اطلاق النار وتنفيذ عملية تبادل للأسرى والمعتقلين تفتح الطريق الى انجاز دولي يحتاجه الأميركيون ومعهم اطراف عرب وغربيون لتجاوز عقدة النقص الناجمة من الفشل الديبلوماسي في إرساء تفاهم على وقف حرب طالت أكثر مما يتوقعه احد. وعليه كيف يمكن ترجمة هذه المعادلة؟
قد يكون مجازفة الحكم على ما يمكن ان تنتهي إليه مفاوضات الدوحة التي استؤنفت أول الخميس الفائت برعاية الثلاثية الدولية – العربية التي أحياها مجددا قادة الولايات المتحدة الاميركية ومصر وقطر بعد أن جندت لها كل الطاقات الديبلوماسية والحكومية الدولية بالتزامن مع الحشد العسكري غير المسبوق على الساحات البرية والبحرية المحتملة لأية حرب موسعة، ليكون جميع الاطراف على استعداد لمواجهة اي تطور قد يطرأ وتجنب المفاجآت المحتملة، في حالتي الانفراج التي يمكن ان تقود اليها هذه الجولة الجديدة من المفاوضات الديبلوماسية او العكس.
على هذه القاعدة بتشعباتها المختلفة التقت مراجع ديبلوماسية وقانونية ودستورية وعسكرية على وضع تقييم جديد للمرحلة الحالية، بنته على سلسلة من المستجدات السياسية والديبلوماسية المتلاحقة التي شهدتها الساحات الداخلية في الدول المعنية مباشرة بالحرب وتلك التي شكلت “الحلف الدولي” وذاك المتمثل بـ “محور الممانعة”. وأخطر ما توصلت اليه هذه القراءة ان ما يجري على هذه الساحة الملتهبة اقترب من ان يشكل انتقالا سريعا الى مرحلة من “الفلتان الدولي” غير المسبوق إيذانا بفشل الديبلوماسية الدولية بمختلف مستوياتها في تحقيق أي إنجاز على رغم من القدرات التي خصصت لهذه الغاية مصحوبة بالتحذير الدائم من امكان توسع رقعة النزاع وانخراط القوى الدولية فيها بكل قواها. وهو ما سيشكل انهيارا كبيرا للأمن الدولي لمجرد التثبت من أن ما هو مرتقب قد يكون على شكل الحروب المفتوحة بين العصابات بعدما أسقطت السياسات المعتمدة كل المواثيق والشعارات الاممية التي تحاكي حقوق الانسان، وفشل الأمم المتحدة من تنفيذ قراراتها على خلفية حماية شرعة حقوق الإنسان وضمان السلم الدولي.
ومرد هذه القراءة المقلقة الى مجموعة من المؤشرات هذه هي أبرزها:
- الخلاف الكبير بين المحورين في قراءة موجة الاغتيالات في الضاحية الجنوبية وطهران وسوريا ومناطق مختلفة من دول المنطقة التي رفعت منسوب التوتر. ولما عدًتها واشنطن وعواصم “الحلف الدولي” من “العمليات الأمنية” التي تسقط أمامها الحواجز الجغرافية والعسكرية والتكتية التي رسمتها “قواعد الاشتباك”، اعتبرها “محور الممانعة” خرقا للسيادة الإيرانية وتماديا في خرق الخطوط الحمر في لبنان.
- حال الفوضى الدستورية والامنية في اسرائيل وما أصاب جبهتها الداخلية من ندوب خطيرة غير مسبوقة، وهي التي سمحت لبنيامين نتنياهو ان يستخدم صلاحياته الاستثنائية التي مكنته من التحكم بكل ما يجري على المستويات العسكرية والسياسية والديبلوماسية وصولا إلى التحكم بمجرى المفاوضات الجارية منذ اللحظة الاولى لانطلاق عملية “طوفان الاقصى”. وان صحت المعلومات بأن نتنياهو أقال أمس وزير الامن والدفاع يؤاف غالانت بعدما وصل التوتر بينهما إلى نقطة الغليان، سيكون قرارا يزيد من هزالة التركيبة الحكومية بعد استقالة كل من الوزيرين بيني غانتس و غادي آيزنكوت قبل فترة على خلفية “امتناع نتنياهو من منذ فترة طويلة عن اتخاذ القرارات الحاسمة اللازمة لتحقيق أهداف الحرب وتحسين الوضع الاستراتيجي لدولة إسرائيل”. وباتت الحكومة من اليوم اسيرة “خلو الساحة أكثر لليمين المتطرف في الائتلاف الحكومي”، المتمثل بكل من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش وهما المعرضان للعقوبات الأميركية عدا عن الإدانات الدولية لمواقفهما الداعية الى اعفاء المجندين من أي عقوبة نتيجة اعتداءاتهم على الاسرى قتل الاسرى الفلسطينيين واستخدام النووي في قطاع غزة.
- الجديد الذي تعيشه قيادة حركة “حماس” بعد اغتيال الراس السياسي المفاوض اسماعيل هنية وانتخاب قائد الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار رئيسا لها. وهو ما نقل كل القرارات السياسية والعسكرية للحركة الى الرجل الاقوى الذي بقدرته الدمج بين القيادتين السياسية والعسكرية للحركة بطريقة أنهت ادوار قيادات أخرى كان الرهان معقودا على مواقفهم التهدوية وهو ما عزز قوة الجناح المتشدد في الحركة في مواجهة التشدد الاسرائيلي. لترتفع المخاوف من الانقياد تلقائيا الى حرب طويلة الأمد وبلا اي أفق، بين شخصيتين متشددتين يستحيل معهما التوصل الى مخارج سياسية طالما ان نتنياهو او السنوار ما زالا على قيد الحياة.
- الغموض الشديد الذي تمكن “محور الممانعة” من الحفاظ عليه بسرية مطلقة حول شكل الرد على عمليتي اغتيال هنية وشكر ومعهما “عملية الحديدة”، وما تركته تهديداته من قلق دولي دفع بالموفدين الرئاسيين وقادة الديبلوماسية الدولية الى القيام باوسع تحرك فلم يسبق ان قام كلا من وزيري دفاع وخارجية بريطانيا ديفيد لامي وجون هيلي وبعدهما وزيري خارجية فرنسا ستيفان سيجورنيه ومصر بدر عبد العاطي وما بينهم الموفد الرئاسي الاميركي عاموس هوكشتاين الى بيروت لمحاكاة موقف “حزب الله” والنصح بعدم الرد من خارج منطق “العين بالعين والسن بالسن”، بطريقة من الطرق التي لا تؤدي الى توسيع الحرب. وفي الوقت الذي فتح خط التواصل بين وزيري خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني وإيران علي باقري كني أول أمس لمناقشة الوضع لم يسجل ان قام وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا بمهمة مشتركة في اسرائيل كالتي حصلت امس وكل ذلك من أجل تعزيز التوجهات الديبلوماسية والسياسية على ما عداها من الخيارات الاخرى التي لن يفوز بها أحد امام هول ما يمكن ان تنتهي اليه.
وقياسا على ما تقدم، ومن دون التوسع في كثير مما يقال من مؤشرات عززت السباق المحموم بين الخيارات الديبلوماسية والعسكرية الى الذروة، وهو ما رفع من نسبة الحراك الديبلوماسي الى اقصاه في محاولة للاستثمار في ما يمكن ان تقود إليه “مفاوضات الدوحة” تأسيسا على المبادىء التي استندت اليها مبادرة بايدن الاخيرة وقرار مجلس الأمن الذي ترجمها منذ 10 حزيران الماضي وما لقيته من ترحيب دولي وإقليمي غير مسبوق على امل ترجمتها بما يحول دون الحرب الكبرى والبدء بالبحث في الخطوات العملانية توصلا الى وقف نار شامل ونهائي في غزة ينعكس على الساحات الاخرى وربما الغى البرامج الايرانية بالرد على جريمة اغتيال هنية على رغم من الفصل الذي أجرته قيادة الحرس الثوري الايراني بين ما تريده منه، بمعزل عن الوضع في غزة والمنطقة، وهو ما يبرر التريث في شكل الرد وتوقيته والهدف بالمواصفات الدقيقة التي وضعت.
على هذه الخلفيات، بني الاعتقاد لدى المراجع السياسية والديبلوماسية ان اقصى ما يتمناه “الحلف الثلاثي” الجديد الذي رعى مفاوضات “خميس الدوحة” تمديد مهلة المفاوضات ان تم تقليص الفجوات. وهو امر يخضع للتدقيق في كثير من التفاصيل غير المتوافرة قبل ان تعود الوفود الى بلدانها واعادة تقييم الوضع. لكن ما هو واضح – كشف عنه ديبلوماسي عربي كبير – إذ لفت الى إمكان تحول مفاوضات “الفرصة الاخيرة” في الدوحة “مساراً سياسياً وديبلوماسياً مستداماً” يسمح عند تمديد العمل بالآلية المعتمدة على تطوير الأفكار القابلة للتنفيذ لتقليص الفوارق الى حين التوصل الى وقف تجريبي لإطلاق النار وصفقة لتبادل الأسرى تقود بنحو مضمون الى وقف نار نهائي وشامل يسرع في الوصول الى “اليوم التالي”.
الجمهورية – جورج شاهين