“كذب المنجمون ولو صدقوا”!

قبل السابع من تشرين الأول الماضي، كانت الحيوية الاعلامية في لبنان تدور في دائرة من الرتابة سببها غياب أي أفق لحل المعضلة الرئاسية، خصوصاً بعد شبه إعلان اللجنة الخماسية المؤلفة من سفراء الدول المعنية عجزها عن تحقيق أي تقدم في هذا الملف، وفي ضوء العناد الذي يمارسه بعض فرقاء الداخل برفض الجلوس إلى طاولة حوار لايجاد التوافق المنشود لانتخاب رئيس عتيد للجمهورية.

وكانت الأخبار في تلك الفترة متشابهة من حيث نقل موقف الفريق السياسي الممانع أو الفريق المعارض تتخللها في بعض الأحيان مناظرات على الهواء مباشرة بين “المحللين” تفضح العقم الحقيقي الذي يعيشونه وفقدانهم للمعلومات الصحيحة، فكان اللبنانيون يسمعونهم وهم يدلون بآرائهم استناداً إلى “رهانات” الفريق السياسي الذي يمثلونه أو يدورون في فلكه، و”يجزمون” بأن “القادم من الأيام” سيثبت صحة موقفهم.

غير أن الحيوية بعد “طوفان الأقصى” عادت لتظهر بوضوح على شاشات التلفزة بقنواتها المختلفة، وعلى صفحات الجرائد القليلة التي تصدر في لبنان، وخصوصاً على صفحات المواقع الالكترونية ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فصار اللبنانيون يتسمّرون أمام شاشات التلفزيون أو يختلون بهواتفهم النقالة لمتابعة آخر الأخبار خصوصاً وأن “الحرب” أصبحت على الأبواب ولو أنها لا تزال تقتصر على ضربة من هنا و”رد” من هناك.

وعلى الرغم من أن الوضع على الحدود الجنوبية للبنان تدهور أمنياً بسبب انخراط “حزب الله” في ما أسماه “جبهة الاسناد لغزة”، إلا أن العمليات العسكرية اقتصرت في بداية الأمر على قصف متبادل كان العدو الاسرائيلي يستهدف من خلاله القرى الحدودية ويوقع بين صفوف المدنيين شهداء وجرحى، وتسبب في تهجير ما يقارب 100 ألف مواطن جنوبي، في حين كان “الحزب” يرد باستهداف المواقع العسكرية الصهيونية، إلا أن الأمر تطور مع اعتماد العدو سياسسة الاغتيال فأوقع في صفوف “حزب الله” أكثر من 500 شهيد، وعادت “أدمغة” المحللين و”المنجمين” و”ألسنتهم” إلى العمل وإطلاق التوقعات حول مآل هذا الوضع الأمني المقلق وأيضاً من دون الارتكاز على أي معلومات حقيقية.

وإسرائيل التي اعتادت عدم احترام القرارات الدولية أو الالتزام بأي اتفاق تجاوزت الخطوط الحمر التي رسمتها الحرب الخاسرة التي خاضتها في العام 2006 وقصفت الضاحية الجنوبية لبيروت لاغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” صالح العاروري، كما استهدفت بالقصف البعيد المدى سفارة الجمهورية الاسلامية في إيران لدى دمشق لتغتال أحد كبار قادة الحرس الثوري، ما ساهم في فتح أبواب “الردود المضادة” ولتشتعل شاشات التلفزيون بالمنجمين وتوقعاتهم حول “الرد” وأقلام المحللين الذين “يرون” السيناريوهات المحتملة، والواقع كان أن خابت ظنونهم لأن ما حصل جاء مخالفاً لكل رهاناتهم وتنبؤاتهم.

ثم جاءت الضربة القاصمة بتجاوز إسرائيل الخطوط الحمر مجدداً عبر اغتيال أحد أهم الأدمغة العسكرية في “حزب الله” فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، موجهاً ضربة قاسية الى الحزب وأمينه العام السيد حسن نصر الله شخصياً، واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب العاصمة الايرانية طهران أثناء مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الايراني الجديد، وهنا الطامة الكبرى.

أطلق الامام الخامنئي “فتوى” شرعية بضرورة الرد على ما حدث في قلب عاصمته، وهذا حق شرعي وقانوني له، وكذلك فعل السيد نصر الله وله الحق أيضاً، غير أن “المحللين” والمنجمين لم يكتفوا بتأكيد حتمية الرد، بل ذهبوا بعيداً في وصفه وكيفيته، لا بل أكثر من ذلك، لقد حددوا موعد الرد كما لو أنهم أصحاب القرار فساهموا في نشر الذعر والخوف في قلوب اللبنانيين، وأكثر من ذلك، ساهموا في إنهاء الموسم السياحي الذي بدا واعداً بسبب “توقعاتهم” التي دفعت المغتربين الذين قدموا لقضاء الصيف في ربوع الوطن، الى العودة من حيث أتوا.

قال أحد الزملاء في تعليق لافت: “لو يعيرونا سكوتهم” وهو يقصد بذلك هؤلاء النجوم الاعلاميين الذين ليست لدى أي منهم “معلومة” واحدة مؤكدة، لا بل لا يملكون أي قرار في الرد أو موعده أو مكانه، وحبذا لو تركوا الأمر للذين يملكون وحدهم القرار: السيد خامنئي والسيد نصر الله من جهة الفريق الممانع، والمجنون بنيامين نتنياهو من جهة العدو الصهيوني.

لم يؤدِ التحليل والتنبؤ سوى إلى انهيار في أعصاب اللبنانيين وزيادة الضغوط على كل القطاعات الصناعية والسياحية، فلو عاد المحللون والمنجمون إلى ما قيل قديماً والتزموا به لوفروا علينا كمّاً كبيراً من دواء الأعصاب وقلة النوم: “كذب المنجمون ولو صدقوا”.

صلاح تقي الدين ـ لبنان الكبير