في الحرب اللبنانية – الإسرائيلية المتواصلة معارك كثيرة، بعضها صغير وبعضها الآخر كبير جداً، وأبرزها معركة التحديث أو التطوير التكنولوجي والعسكري المستدام وفق تطورات الميدان. فبعيد إسقاط حزب الله مسيّرات إسرائيلية، عمد العقل العسكري – التكنولوجي، الإسرائيلي – الأميركي، إلى تقصّي الثغَر التقنية التي سمحت للمقاومة بإسقاط هذه المسيّرات، وحاول معالجتها بما يفترض أنه يحول دون تمكن المقاومة من إسقاطها مجدداً. لكن إسرائيل التي انفردت سابقاً في ملعب التحديث والتطوير خلال الحرب، لم تعد وحدها في هذا الملعب. إذ تنكبُّ المجموعات الهندسية في المقاومة – خلال الحرب أيضاً – على تحديث الأنظمة وتطويرها، لرصد مزيد من الثغَر. وفي الوقت نفسه، لا تكاد إسرائيل تسقط مسيّرة للمقاومة، حتى تنكبّ المجموعات الهندسية نفسها على تحديث الأسراب الاستطلاعية والانقضاضية، بما يضمن استمرارها في القيام بعملها على أكمل وجه، وتواصل مسيّرات الحزب الدخول والخروج يومياً، ومرات عدة، إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة رغم استنفار الرادارات الإسرائيلية والأميركية والأوروبية، والتحليق الجوي المتواصل للطائرات الحربية الإسرائيلية. وهذا ما يسمح للمقاومة بإجراء تحديث يومي، وأحياناً أكثر من مرة في اليوم الواحد، لنقاط تموضع جيش العدو الذي أخلى معظم ثكناته والنقاط التقليدية واستحدث نقاطاً جديدة بين منازل المستوطنين، وفي المصانع والمدارس والمزارع المهجورة.وإذا كان تبديل التكتيكات العسكرية خلال المواجهة قد بات روتيناً عسكرياً بالنسبة إلى الحزب، فإن تطوير وتحديث الأدوات الدفاعية والهجومية يعدّان عاملاً جديداً وأساسياً جداً في هذه الحرب. وهو ما يدفع الطرفين إلى تردد كبير في استخدام أيِّ أسلحة جديدة، لمعرفة كل منهما بأن الطرف الآخر سيسارع إلى إيجاد الحلول اللازمة للتعامل معها. فعلى صعيد الصواريخ مثلاً، لدى الإسرائيلي تصورات أولية عما طوّره حزب الله، لكن التفاصيل الدقيقة تبقى عند الحزب وحده، لأنه هو من جمع وحدَّثَ وطوّر هذه الصواريخ وأضاف إلى رؤوسها الحربية ما يراه مناسباً.
وفي السياق نفسه، ما كاد الحزب يكتشف حجم وطبيعة الخرق لهيكل الاتصالات الخاص به حتى طوّر قنوات اتصال جديدة، مخصّصاً الخطوط المخترقة للتضليل على مدى أكثر من خمسة أشهر. مع التأكيد هنا أن غرفة العمليات المشتركة بين قوى المقاومة، بما فيها المجموعات المشتبكة في غزة، تسمح للحزب بإجراء تحديث دوري بشأن آلية عمل الجيش الاسرائيلي، وخصوصاً أن شبكة اتصالات حماس داخل الأنفاق لا تزال سليمة بالكامل بعد أكثر من عشرة أشهر، وقد أثبتت تجربة المقاومة الفلسطينية أن التكنولوجيا ضرورية جداً في مكان، ولكن في الإمكان الاستغناء عنها واستبدالها بوسائل هجومية ودفاعية تقليدية وبدائية في مكان آخر. وإذا كان الحزب قد راكم خلال الأعوام القليلة الماضية خبرة في رصد مجموعات التواصل عند العدوّ، فهو يعرف، في المقابل، أن اسرائيل كانت ترصد ما يجري خلال الحرب السورية، بما في ذلك احتفاليات العائدين واتصالاتهم اليومية وحركتهم وغيرها، وهو ما دفعه، ولا يزال، إلى الكثير من الإجراءات الاحترازية.
واذا كان الحزب يتصرف على أساس أن إسرائيل تعرف معلومات عن تموضع قواته أو مخازنه، فإن التجارب الماضية تؤكد نجاحه في تضليل الاستخبارات الإسرائيلية التي فوجئت خلال حرب تموز وبعدها، بأن معظم ما جمعته من معلومات عن هذه المخازن كان وفق تضليل ممنهج لها. أضف إلى ذلك أن الحزب لم يستنفر حتى اليوم كل مقاتليه، بل عمد إلى خفض عدد الموجودين في النقاط العسكرية. وحتى في مواجهة عمليات اغتيال المقاومين، لجأ الحزب الى تعديلات تنظيمية تقلّل من حجم الضرر جراء الاستهدافات. مع الإشارة الى أنه ما من سابقة حربية لما يحصل في الجنوب اللبناني، لجهة احتفاظ المقاومة لأكثر من عشرة أشهر بقدرتها على التحرك في نطاق عسكري ضيق وتحت رقابة جوية كاملة. وقد مكّن التحديث والتطوير للخطط والوسائل المقاومة من خفض خسائرها البشرية. فبعدما كان سلاح الجو الإسرائيلي يتمكّن من الردّ بسرعة على مصادر النيران، يمكن لمن يتابع عدد العمليات والاستهدافات الإسرائيلية في الشهرين الماضيين، أن يلاحظ أن العدوّ بات قادراً على الوصول إلى عدد قليل جداً من الناشطين في الميدان.
أما المعركة الأساسية الثانية في هذه الحرب فهي معركة المعنويات بكل ما تتطلّبه من تحديد دقيق للمعنيين بهذه الحرب أولاً، وقدرة الوصول إلى الفئة المستهدفة ثانياً، والتأثير بهم ثالثاً. كثيرون ممن يفترضون أن لمواقفهم أهمية أو تأثيراً هم في واقع الأمر خارج دائرة التأثير بالكامل، ولا علاقة للميدان برأيهم أو بمشاعرهم أو معنوياتهم. ففي إسرائيل مثلاً، المهم في هذه المعركة هو الجيش الإسرائيلي، يليه المستوطنون في الشمال والوسط، ثم الحكومة والأفرقاء السياسيون وبقية الرأي العام. وإذا كان الجيش الإسرائيلي يقرّ بقدرة الحزب على زعزعة معنويات جنود، فإن قدرة الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله على الوصول إلى عقول المستوطنين الإسرائيليين وبثّ الذعر في قلوبهم أكبر بكثير من قدرة الإسرائيلي على الوصول إلى بيئة المقاومة أو مخاطبتها بشكل جديّ. ولا بدّ من القول هنا ختاماً إن المبعوثين الدوليين والملحقين العسكريين الذين توعّدوا أخيراً بضربة استباقية إسرائيلية ضخمة في حال إصرار الحزب على الردّ على الاستهداف الإسرائيلي لبيروت، سمعوا كلاماً واضحاً بأن الهجوم الإسرائيلي الجوّي يتطلب عملياً، مجرّد «كبسة زر»، وهي الحال نفسها هنا. إذ إن إطلاق آلاف الصواريخ الاستراتيجية نحو الأهداف الدقيقة في فلسطين المحتلة يتطلب كبسة زر فقط.
غسان سعود ـ الأخبار