جبران باسيل حَوَّلَ “التيّارَ الوطني الحرّ” في لبنان إلى إقطاعيةٍ شخصيةٍ
مايكل يونغ*
في الوقتِ الذي يُواجِهُ لبنان احتمالَ اندلاعِ حربٍ مُوَسَّعةٍ مع إسرائيل، يمرُّ المُجتمعُ المسيحي الماروني في البلاد بتحوُّلاتٍ خاصة به. أحد أحزابه السياسية الرئيسة، “التيار الوطني الحر” الذي أسّسهُ الرئيس السابق العماد ميشال عون، يتحوّلُ بسرعةٍ إلى إقطاعيةٍ شخصيةٍ لصهر عون، جبران باسيل. وفي حين أنَّ هذا التطوُّرَ هو أقلُّ دراماتيكية من الحرب، فإنه يقولُ الكثيرَ عن سياسةِ المجتمع المسيحي في البلاد واتِّجاهه.في العام 1990، بعد أن أعلن العماد عون “حرب التحرير” ضدّ القوات السورية في لبنان أثناء الحرب الأهلية في البلاد، كان يُلقي بانتظامٍ خطبًا أمام الحشود الواقفة خارج القصر الرئاسي، حيث كان يترأَّسُ حكومةً عسكرية. كان أحد المواضيع الذي كرره كثيرًا هو أنه يسعى إلى لبنانٍ جديدٍ أكثر مُساواةً، حيثُ لن يَحكُمَ زعماءٌ طائفيون بارزون بعد الآن.أن يصدُرَ مثلُ هذا الكلام من عون، فذلك كان له معنى ومنطقيًا في ذلك الوقت. فهو نفسه كان ابنًا آتٍ من محيطٍ هامشيٍ في لبنان، وقد نالَ ترقيةً اجتماعيةً من خلالِ المؤسّسة العسكرية في البلاد ــ وهو ما كان في بعض الأحيان، وإن لم يكن دائمًا، مثالًا نادرًا على الجدارة في البلاد. لكن عندما رفض عون اتفاق الطائف في العام 1989، بعد أن صوَّتَ البرلمانيون اللبنانيون لصالحه في المملكة العربية السعودية، برزَ جانبٌ آخرٌ من شخصيته إلى الواجهة.يبدو أن رفضه وقتذاك كان مدفوعًا بحقيقةٍ مفادها أنَّ المفاوضاتَ التي أدّت إلى اتفاق الطائف لم تؤدِّ أيضًا إلى انتخابه رئيسًا للجمهورية. وحدث هذا على الرُغم من حقيقةِ أنه كان يتمتّعُ بدعمٍ كبيرٍ من المسيحيين الموارنة، وأنه بدأ حملته في العام 1988 بإغلاق الموانئ غير القانونية، وبدا وكأنه يُجَسِّدُ مشروعَ الدولة ضد عَقدٍ ونُصفٍ من حُكم الميليشيات في زمن الحرب.وسرعان ما هزمَ السوريون العماد عون وأجبروه على الفرار من القصر الجمهوري والنفي. وعندما عادَ من فرنسا إلى لبنان في العام 2005، استقبله أنصاره بحماسٍ كبير. لقد أدّت جهودُ الطبقة السياسية لاحتوائه وتشكيلِ تحالُفاتٍ للحَدِّ من نجاحه في الانتخابات البرلمانية في ذلك العام إلى تعزيز جاذبيته. ونتيجةً لهذا، نجح عون في تأمين أكبر كتلة مسيحية في البرلمان.منذ تلك اللحظة، أحيا عون طموحه القديم في أن يُصبحَ رئيسًا للجمهورية. فتحالفَ مع “حزب الله”، ما أدّى فعليًا إلى تفكيك “تحالف 14 آذار/مارس” الذي عارضَ سوريا في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وقد أجبر هذا الأمر السوريين على الانسحاب من لبنان، ما سمح لعون بالعودة.أتى تحالفُ عون مع “حزب الله” بثماره عندما دعم الحزب ترشيحه إلى الرئاسة في العام 2016، حتى مع قيام منافسه المسيحي الرئيس، سمير جعجع، بالشيء نفسه. وانتُخِبَ عون في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، وسعى على الفور إلى الترويج لباسيل، سواء في الحكومة أو في تياره الوطني الحر. وفي آب (أغسطس) 2015، دعم عون ترقية باسيل إلى زعامة “التيار الوطني الحر”، بدون إجراء انتخابات.ومنذ ذلك الحين، قام باسيل بتطهيرِ كبارِ أعضاء الحزب الذين كانت علاقاتهم مباشرة مع عون، وليس معه. في العام 2022، طرد نائبين من “التيار الوطني الحر”، ماريو عون وزياد أسود، وأخيرًا، طرد الياس بو صعب من الكتلة البرلمانية التي يقودها “التيار الوطني الحر”. وفي إشارةٍ إلى اكتسابه المزيد من الجرأة، طرد أخيرًا ابن شقيق الرئيس عون، النائب آلان عون، ما دفع عضوًا بارزًا آخر في “التيار الوطني الحر”، النائب سيمون أبي رميا، إلى الاستقالة من الحزب.في حين أن هناك القليل من المفاجأة في تحويل باسيل ل”التيار الوطني الحر” إلى نسخةٍ وصورةٍ عنه –ما أسماه أبي رميا “الفردية” في خطاب استقالته– إلّا أنه يُثيرُ العديدَ من الأفكار.أوّلًا، على عكسِ معظم الأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى، التي بُنِيَت حولَ زعماءٍ طائفيين، كانت لدى “التيار الوطني الحر” في البداية إمكاناتٌ أكثر إثارةً للاهتمام. كان العديد من البرلمانيين من المجموعة أشخاصًا بارزين في مناطقهم، وليسوا أتباعًا لعون. بدا الأمرُ وكأن “التيار الوطني الحر” يُمكِنُ أن يُصبِحَ نقطةَ تجمُّعٍ لناخبين من الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدنيا في الغالب، وكان يتمتّعُ بشعبيةٍ حقيقيةٍ في المناطق المسيحية، وكان أيضًا على استعدادٍ لتجاوُزِ الخطوطِ الطائفية.ثانيًا، صَوَّرَ خطابُ عون في الماضي “التيار الوطني الحر” على أنهُ مُختلفٌ عن النُخبةِ الطائفية التي كان عون يُهاجمها في العام 1990. ولا يُمكِنُ للمرءِ أن يذهبَ إلى أبعدِ من ذلك، حيث أن العماد عون نفسه قد يكون شخصية طائفية للغاية، ولكن على الأقل في ظاهر الأمر، بدا أنَّ قاعدة الحزب أقل تركيزًا على الطائفة من تركيزها على رؤيةٍ للدولة التي يلتزم بها أنصاره من الطبقة المتوسطة والطبقة المتوسطة الدُنيا.ثالثًا، من خلالِ إبعادِ شخصياتٍ بارزة من “التيار الوطني الحر” وترهيب البقية، أخذَ باسيل ما كانَ حزبًا تعدُّدِيًا إلى حدٍّ ما وحوّلهُ إلى حزبٍ عُرضةً للتحوِّلِ إلى مجموعةٍ من المُتمَلِّقين. لا ينطبقُ هذا على جميع أعضائه القياديين المُتَبَقّين، لكن رسالة باسيل واضحة: “إما أن تعملوا مع برنامجي، أو تذهبوا”.رابعًا، في الأمد القريب، أدَّت اختياراتُ باسيل المُثيرةُ للجدل إلى تنفيرِ عددٍ كبيرٍ من الناخبين، بحيثُ في الانتخابات الأخيرة لعام 2022، كان حزب “القوات اللبنانية” المُنافس هو الذي حصل على غالبية الأصوات المسيحية، وليس “التيار الوطني الحر”. ومع إجبارِ المزيد من شخصيات “التيار الوطني الحر” على الخروج من الحزب، فمن المحتمل أن يستمرَّ تآكلُ ناخبي الحزب.قد لا يُزعِجُ هذا الوضع باسيل، الذي يبدو أن هدفهُ هو إنشاءُ منظمّةٍ مُوالية له بالكامل. ومع ذلك، فإنَّ كلَّ ما يُظهِره هذا هو مدى اختلال السياسة اللبنانية وعدم ديموقراطيتها، حيث أصبح الاحتفاظ بالسلطة الشخصية أولوية أكبر بكثير من تقديم أفكارٍ جديدة تبني الدوائر الانتخابية.وعلى نحوٍ ما، لم يفعل باسيل سوى تعزيزِ الشعورِ بأنَّ المجتمع المسيحي لا يزال أسيرًا للازدواجية التي أدّت إلى تدميره في العام 1990، عندما خاض الجيش اللبناني بقيادة العماد عون حربًا وحشية ضد “القوات اللبنانية” بقيادة جعجع والتي قوَّضت القوّة الوطنية للموارنة. ولا يزال العونيون و”القوات اللبنانية” موجودين، ولا يزال كلاهما يُقسِّمُ الناخبين المسيحيين.الأمرُ الأكثر إحباطًا هو أنَّ باسيل وجعجع حافظا على بيئةٍ سياسية داخل المجتمع المسيحي لا تتركُ مجالًا كبيرًا للمعارضين. وفي وقتٍ يبدو أنَّ الكثيرين من المواطنين المسيحيين قد تخلّوا عن فكرة الدولة اللبنانية المُوَحَّدة، فإنَّ المجتمع المسيحي سوف يستفيد من الخروج من قبضة العونيين و”القوات اللبنانية”.
مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCallingكُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.