الأدب… من قلّة الأدب!!
رغم أن مكتبته هي الوحيدة في حيّ مار مخايل بمنطقة الشياح – جنوب بيروت، لم “يستفتح” المعلم شفيق ببيع جريدة أو مجلة، إلا لماماً.. فقد كان سكان الحي يمرّون به قبل الذهاب الى أعمالهم، ويفتحون رزمة الجرائد والمجلات الموضوعة أمامها فيقرأون ما طاب لهم.. ثم يتركونها مبعثرة، ليقوم هو بإعادة ترتيبها على مضض وبتمتمات غير مفهومة!!
هذا الأمر إضطُرَّه إلى اقتناء خزانة حديدية سلَّم نسخة من مفتاحها إلى موزّع الجرائد والمجلات، واحتفظ بنسخة.. أما نحن أولاد الحيّ، فلم تكن تهمنا الجرائد بقدر ما تهمّنا المجلات الأسبوعية والشهرية، لا سيما الإباحية منها، كمجلة “الجنس” التي كانت تعالج المشاكل الجنسية فتزيدها تعقيداً؟! فكنا نقصد المكتبة لنقرأ ونساعد أحياناً صاحبها الذي كان يأخذ قيلولة بعد تناوله الغداء تصل إلى حوالى الساعة.. فبدلاً من أن نقرأ كتاب “ماجدولين تحت ظلال الزيزفون” للكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي نلجأ إلى كتاب “ياسمين في ظلال المجون”.. وبدلاً من الإستفادة من قراءة كتابه “العبرات”، كنا نتمتع بصور سيقان الفاتنات العاريات واللهلوبات..
أما مؤلفات الكاتب المصري الشهير إحسان عبد القدوس: “لن أعيش في جلباب أبي”، “أنف وثلاثة عيون”، “أبي فوق الشجرة”، “عذراء ولكن”.. فكنا نستبدلها بـ “لن أعيش في جلباب عشيقتي”، “أنف وثلاثة قرون”، “حبيبتي تحت الشجرة” و”حبلى ولكن”..
ولطالما استبدلنا رواية الأديب نجيب محفوظ ” بين القصرين” برواية مغرية مبهجة إسمها “بين النهدين”!!
كما كنا نلجأ أحياناً الى المجلات الأجنبية ذات النزعة الخلاعية “لتعزيز آفاقنا ودعم ثقافتنا”.. فنضع أشهر المجلات آنذاك “البلاي بوي” ضمن مجلتي “الحوادث” أو “الصياد” ونقرأ بإسهاب..
ذات يوم، وبينما كنت مستمتعاً بتصفّح إحدى المجلات التي وصلت حديثاً إلى المكتبة، فوجئت بوالدي، رحمه الله، يدخل لشراء غرض ما، فسارعت بلمح البصر، واستللت كتاباً للكاتب المصري أبو السعود الإبياري بعنوان “البحث عن فضيحة”، فاغتبط والدي لِما رآه فيَّ من حبّ التثقُّف، وأثنى عليّ.. لكن” يا فرحة ما تمت” فقد ارتبكت من هول المفاجأة، وسقطت المجلة الخلاعية مني فأُسقِطَ في يدي، وبدلاً من البحث عن فضيحة الأبياري كانت “فضيحتي بجلاجل”..
مرّت سنوات طويلة إنتقلنا خلالها من الحيّ إلى منطقة أخرى، وشاءت الصدف أن ألتقي بالمعلم شفيق في منزل أحد الأصدقاء، فتذكرنا تلك الأيام والإحراج الذي وقعت فيه، وضحكنا كثيراً.. لكنه، مع ذلك، أبى إلَّا أن يشهد لي بأنني كنت – رغم “قلَّة الأدب”- تلميذاً مجتهداً، أواظب على المطالعة، والتفوّق في الدراسة، فقلت له: أنا شاكر لك يا معلم شفيق لأنني بفضل مكتبتك تفوّقت باللغة العربية، حتى أصبحت أمتهن التدقيق اللغوي.. فباغتني بعبارة لا تزال ترنُّ في أذنيَّ: “من قلة الأدب تعلَّمنا.. الأدب”!!
*الأستاذ جميل نعمة صحافي، بدأ حياته المهنية في مجلة اليقظة الصادرة عن مدرسة الحكمة في بيروت حيث تعلّم فن الكتابة على أيدي عمالقة في اللغة العربية وآدابها، حسيب عبدالساتر وإميل كبا ومنها انطلق إلى جريدة الجمهورية زمن الأستاذ هنري سجيع الأسمر، من ثم إلى جريدة النقيب، كما يحلو للكثيرين أن يطلقوا عليها هذا الإسم ، وهي جريدة البيرق، ومنها انطلق وانتقل متسلحًا بالخبرة والمهنية إلى جريدة غسّان وجبران تويني ، الى النهار. وهو اليوم يأبى التقاعد، فإلى جانب مسؤولياته في مجلتي الأمن والأمن العام يخصّ موقعنا بمقالات تفرح القلب في عتمة السياسة وظلامها.