كتب العلامة في السياسة إدوار حنين مقدمة لكتاب “كفرسما”، جاء فيها:
حَقل السماء، كفرسما” (بالفرنسية) كتاب الأب منصور لبكي الأخير طرفةٌ بين الكُتُب، على نحوِ ما هو صاحبه طرفةٌ بين الرِّجال.
“كفرسما” ليس كتابَ قصّة، أو حكاية، أو رواية على أنّه قصة وحكاية، ورواية، في آن.
وليسَ هو كِتاب سيرة، على أنّه سيرة.
ولا هو كتابُ شعر، على أنّه شعر.
ولا هو ترنيمة، أو لوحة، أو صلاة، على أنّه ترنيمة ولوحة وصلاة.
ولا هو “مُتَعدِّد الجِنسيَّات”، إن هو إلّا من جنسيّة واحدة، وهي الجِنسيّة “المنصور – لبكيةُ” الّتي تَظهَر في كُل ما يَصدُر عن منصور لبكي:
في حَقل الخَدمات الرّوحيّة – الإجتماعية – الرّعويّة.
في حُقل الفُنون، تأليفاً، وإنشاداً، وجوقات، ومسلسلات.
في حقل الفِكر على صفحات “الرّعيّة” والفصول، في المؤلَّفات والمحاضرات، والأحاديث، وفي كل ما يُذاع له.
وفي حقل الله والدِّين والإنسان حيثُ أَلِفَ الأبعاد، فَتَوغَّلَ فيها غوصاً على ما يَجعَل من الله، والدّين، والإنسان واحِداً أحَداً مُستَمِر الوحدانيّة والتألُّق.
“كفرسما” إن لَم تَكُن لا هذا، ولا ذاك، ولا ذيَّاك، من الأنواع الأدبيّة فَماذا تُراها تَكون؟!
هي سيرَةُ قريةٍ في لبنان: كيف نَشَأت، وَنَمَت، وصارَت واحدة من إخوانها القُرى المُعجِزة الّتي تملأ هذا الجَبل، وهي حكايات أهلها، وخوريِّها وعَينِها، وَحقولِها وَبساتينِها، وكنيستها، ومقابرها، وترابها .
هي قَصيدة الطّفولة والأمومَة والأبوّة، والطّهارة، والبراءة، والشّروق والغروب، والقمر، والدّوب، والأزهار، والعناقيد، والدّفء، والرّغيف والرّقص والغِناء، لَكأنَّها نَشيد من نَشيد الأناشيد… أطيَب نَشيد.
هي أُطروحة في المَحبّة، في الإلفة، في وِحدَة القلوب والأهداف، وفي التَّعايُش المَبني على أفضل ما في الإنسان .
هيَ مَعزوفة من مَعزوفات الأب لبكي الألفِ، الّتي تُذاع على اللُّبنانِيّين، صباح مساءً، من إذاعاتهم ، والّتي هي في كلّ بيت، على أنغامها تُنَوِّمُ الأمّ طِفلها، وَتعجُن عجينها، وتَتَطيّبُ.
وهي، في النّتيجة، مجموعة كُتُب في كتاب، ومجموعة أنواع أدبية في نَوع، وَشيءٌ من المُبهَم الفائق الّذي لا يُسمّى ولا يُطال، بين دَفَّتَي كتابٍ واحد.
وَبَعد! عَقِبَ ليلة مُمتعة، تُغلِقُ كتاب “كفرسما” وَتُحاوِل أن تَنام، فَتَتأرّق على إنشاد القوّالين في ساحة الضيعة، وعلى ثَرثَرة نِساء كفرسما، جِرارُهنَّ على أكتافِهِنَّ، كالمشالِح يَنتَظِرنَ أدوارَهُنَّ لِيَملأنَ الجِرار، وعلى التَّندُّر حولَ الخبّازات على الصّاج، وما إن تَهُمَّ بإغلاق جِفنَيك حتى تَلمَح القناديل المُعلّقة فوق أبواب البيوت، والأم التي تَرضَعُ، مكان طِفلِها الّذي أودَت به شَظيَّة عَمياء، طفلاً أطاحَت الحرب أمّه، وصبيّة تنزع عن جِسمها المُرتَجِف حِراماً لِتُلقيهِ على جِسمِ شيخٍ دَنَّق من البرد. وَصَحن الطّارِق الّذي يَجعَل على مائدة الطَّعام جنب صُحون الآكِلين، على عابِرِ سَبيل، في تلكَ السّاعة، كان جائعاً، “فَيُجابر”.
ثمّ يتراءى أمامَ عينيك كريم، وهيثم، وفادي وقاسم، وجمانة وعليا، ومريم، وفدوى يَتَحلّقون حولَ، “جِدّو” والـ “أبونا” عَرَّفَهُم الكاتب إليك بِكلمة، كما خفقةُ العين، فَبَاتوا يَعجُّون وَيَضجّون كالنَّحلِ في القَفير.
لكأنَّ هذا اللَّبكيّ الطّريق، إذا وَقَعَت عَينه على حَجَرٍ قامَ الحَجَرُ يَمشي.
وَإذا أرَقٌ على أرَق.
وما إن يَطلع الصّباح حتّى ترى نفسك مَشدوداً إلى بَعض حالات، وبَعض كلمات، كانت مُختَبئة وراءَ ما كانَ يتحرَّك، أمامك، ويضج.
من مثل:
- الدَّرج الّذي يَصعد إلى السّماء مُختَبِئاً هو في تَلافيفِ نفسك.
- أو يُمكِن أن يدور الكلام على التّوافه في حَضرةِ أُمٍّ تُرضِعُ طفلها؟
- أسنَدَت جُمانة رأسَها إلى كَتِف فادي، وراحَت تُصغي إلى صمته.
- ها هنا ليسَ من أحدٍ وحدَه. ففي كفرسما” لكل صَبيّ مائة أَبٍ ومئة أُمّ، وأكثر من مئة جَدّ، ومئة جَدّة.
- كان كريمٌ يُعيفُ كتابَه وفرضَه ويَقفِز إلى حاكورة البَيت ليلتقي جَدّةً، وأباه قائلاً: عِندي وَقت لأقرأ ما في الكتاب، أريدُ الآن أن أتعَلّم قِراءة الرِّياح والغُيوم، قراءة ما في النّدى وتطواف الفراشات. والنّحل، لأنّي أُريدُ أن أُصبِحَ فلّاحاً.
وَكان كَريم كُلَّما كَبُر، كَبرَ حبّه للأرض، وكان يُشَبَّه له أنّ يَدَه ما تَلمَّسَت الأرض مَرّة إلا أحسّ رسالة تأتيه من أعماق العُصور الّتي تَرقى إلى الفِردوس الأرضي حيث كان الإنسانُ مَغموراً بالسّعادة.
وهكذا : نحنُ أطفال كفرسما، سَنَمُدّ يداً بَعضنا إلى بعضنا الآخر، وسَنَمدّها إلى جَميع شعوب الأرض، وسَنُنشِدُ الحبّ في دَياجير الظّلام، سَنُنشِده أكثر وأقوى، لِيَعلوَ فَحيح الحِقد، وَسَنظَلُّ نُنشِدُ إلى أن يولَدَ، بين صباحٍ ومساء، عالَمُ حُبٍّ جديد.
ومن مثل هذا، الكَثيرُ. وهو مَرشوش في كُلّ صَفحة من صَفحات الكتاب الطّرفة.
ألأب منصور لبكي متحدّثًا عن ظروف صدور كتاب “كفرسما”