عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي في عيد القديس شربل

عيد القديس شربل – عنّايا

الأحد 21 تموز 2024

___________________________________________________________________________

“الذي يزرع الزرع الجيّد هو ابن الإنسان” (متى 13: 37) .

1. زرع المسيح، إبن الإنسان، شربل مخلوف زرعًا جيّدًا في أرض بقاعكفرا، ثمّ في أرض الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة. ذاق مرارة اليتم بوفاة والده، وهو بعمر ثلاث سنوات مع شقيقين وشقيقتين. فكانوا في عهدة عمّهم طنّوس فيما والدتهم عقدت زواجًا جديدًا بعد سنتين من وفاة زوجها الأوّل أنطوان زعرور. منذ نعومة أظفاره كان يسمو في القداسة: كان يصلّي، يعترف بخطاياه، يتناول بتقوى، يركع في الكنيسة نصبًا، بدون حراك ويصلّي. وكان يلقبّه أهالي بقاعكفرا “بالقدّيس”.

2. ثمّ زرعه المسيح الربّ زرعًا جيّدًا في أرض الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الجليلة التي دخلها سنة 1851 بعمر ثلاث وعشرين سنة، وكان فيها خالاه. دخلها في دير ميفوق أوّلًا ثمّ في دير مار مارون عنّايا حيث لبس ثوب الإبتداء مبدّلًا اسمه الأساسيّ يوسف إلى شربل، وهو شهيد الإيمان سنة 107، وربّما اختار أن يكون مثله شهيد الإيمان إنّما من نوع آخر. في الرهبانيّة سلك طريق القداسة، ولا سيما في دير مار قبريانوس ويوستينا في كفيفان حيث درس الفلسفة واللاهوت على يد راهب قدّيس هو الأب نعمة الله الحردينيّ، واتّخذ منه حكمتين: الأولى، الشاطر يخلّص نفسه، والثانية، أن تكون كاهنًا على مثال المسيح تهيّأ لأن تكون كاهنًا وذبيحة. وكان يقول عنه الأب نعمة الله: “لديّ طالب قدّيس، هو الأخ شربل من بقاعكفرا”. سيم كاهنًا في كنيسة بكركي في 23 تمّوز 1859، ورجع للتوّ إلى دير مار مارون عنّايا حيث أكمل مسيرة تقديسه.

3. يطيب لي أن أحتفل معكم بهذه الليتورجيا الألهيّة، قدس الرئيس العام والآباء المدبّرين، وحضرة رئيس هذا الدير العامر الذي يحتضن جثمانه الطاهر، والآباء الكهنة الجدد، بحضور ومشاركة سيادة السفير البابويّ وسيادة أخينا راعي هذه الأبرشيّة، وسيادة المطران سيمون فضول، وهذا الجمع الغفير من المؤمنين، ونحن نحيي فيها عيد القدّيس شربل الذي أصبح قدّيسًا عالميًّا. ونلتمس شفاعته على الرهبانيّة الجليلة لثبات الدعوات فيها، وتقديس أعضائها، ولتظّل منبت القدّيسين والقدّيسات.

4. عاش القدّيس شربل مائتًا عن نفسه كلّ يوم بالسهر، والصلاة راكعًا أمام القربان في الليل، محتفظًا فقط بثلاث ساعات للنوم، متناولًا طعامًا زهيدًا، جاهدًا نفسه في عمل الحقل، مقدّمًا خدمات للمسنّين وللجماعة الرهبانيّة. هكذا عاش في دير مار مارون عنّايا بعد رسامته مدّة 16 سنة، وفي محبسة القدّيسين بطرس وبولس 23 سنة، حتى وفاته في 24 كانون الأوّل 1898 بعمر 70 سنة.

طيلة هذه السنوات تشبّه الأب شربل في العمق بيسوع المسيح، بكامل محبّته له كراهب وكاهن، وحافظ على جمال الحالة المسيحيّة والكيان الرهبانيّ والكهنوتيّ، فكان أنّه “يتلألأ إلى الأبد كالشمس في ملكوت السماء”، وينير على الأرض بنعم السماء.

5. لقد أصبح القدّاس الإلهيّ محور حياته وأعماله. فكان عمل اليدين لديه والتأمّل الدائم والممارسات النسكيّة والتقشّفيّة وحياته بمجملها، قدّاسًا مستمرًّا ومتجدّدًا، يحوّل كلّ شيء فيه ذبيحة وقربانًا، على مثال الربّ يسوع سيّده ومعلّمه. أضاف هذا الكهنوت المعاش على نهجه النسكيّ معنى لاهوتيًّا وخلاصيًّا. فسهره الدائم في المحبسة على مدى 23 سنة، كان مثل المسيح في بستان الزيتون، في محاورة مع ربّه، يسأله الغفران، ويجود بنفسه متطّوعًا للفداء. وهكذا ظلّ شربل الكاهن حتّى وافاه الأجل وهو يحتفل في ذبيحة القدّاس متماهيًا مع المسيح الذبيح، وحاملًا القربان بيديه: ويصلّي: “يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك”.

أجل لقد بلغت حياة شربل الرهبانيّة والنسكيّة كمالها وذروتها بالكهنوت. فلم يكن كهنوته مجرّد رتبة أو وظيفة طقوسيّة، بل أضحى فيه كمال المحبّة لله والإتحاد بالمسيح الكاهن والفادي. بكهنوته لبس المسيح، وأصبح بسيرة حياته الكهنوتيّة والرهبانيّة والنسكيّة، سراجًا على منارة وعلامة للملكوت بين أبناء البشر. هو الذي صلّى عليه الأسقف يوسف المريض يوم رسامته في بكركي في 23 تمّوز 1859، “ليكون لكلّ واحد مصباح نور الإبن الوحيد”. نحن نصلّي لكي يتذكّر كلّ كاهن هذه الصلاة التي تلاها عليه أيضًا الأسقف ساعة رسامته.

6. ماذا يقول لنا القدّيس شربل اليوم:

يقول لنا أوّلًا، إنّ لبنان وطنه لن يزول، إذا عدنا إلى نهجه، نهج الصلاة والتقشّف والتوبة، وبخاصّة إلى قدّاسنا اليوميّ، ولا سيما أيّام الآحاد والأعياد. فكثيرون هجروا الكنائس أيّام الآحاد خلافًا لوصيّة الله الثالثة من الوصايا العشر. لكنّنا نشهد عودة لدى الشبيبة بنوع خاص.

ويقول لنا ثانيًا، إنّه يتشفّع من أجل لبنان وطنه، وأنّ علينا نحن أيضًا أن نصلّي من أجل لبنان وخلاصه من حرب جنوبه، وإحلال سلام عادل وشامل فيه وفي غزّة.

ويقول لنا ثالثًا، إنّ لبنان لا يمكن أن يستمرّ من دون رئيس للجمهوريّة، بل يجب على كلّ معنيّ الخروج من حساباته الخاصّة ومن رأيه وموقفه المتحجّر، والإلتفاف معًا حول انتخاب الرئيس، رحمة بالوطن وشعبه ومؤسّساته الدستوريّة.

ويقول لنا رابعًا، إنّ أعمالنا الرسوليّة تقتضي منّا أعمال توبة وفضيلة وصلاة.

٧. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لكي يغيّر القدّيس شربل عتيق مواقفنا وإراداتنا، فنلتقي حول خير لبنان الذي منه خير كلّ مواطن وجميع المواطنين. لإلهنا المجد والقدرة والتسبيح، الآب والإبن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.

*     *     *