عندما تنادي صاحبة “وعد بلفور” بـ “حل الدولتين”؟


هل تنجح بريطانيا حيث فشل الآخرون وهل أرادت حكومة العمال البريطانية تصحيح خطأ ارتكبته دولتهم باعطائها “وعد بلفور” قبل 104 اعوام؟ وهل يمكن احياء خريطة “مشروع الدولتين ورعاية اممية للقدس وبيت لحم”.

بعد ثمانية أيام على تشكيلها، قالت حكومة حزب العمال البريطاني كلمتها في “اليوم التالي” للحرب في غزة، بدعوتها إلى “مسار موثوق به ولا رجعة فيه نحو حل الدولتين”. وهو ما قالت به وزارة الخارجية في معرض توصيفها اول من امس الأحد لزيارة وزيرها ديفيد لامي لفلسطين، وهو ما عدّ انكاراً تاريخياً لـ “جريمة دولة” قدّمت “وعد بلفور” عام 1917 لإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، قبل ان تقسّمها الامم المتحدة الى ثلاثة كيانات عربية ويهودية وأممية. وعليه هل هناك ما يعزز هذا المسار؟
عندما أُعلن مطلع تموز الجاري، وتحديداً في الأيام الاولى منه عن فوز حزب العمال البريطاني في الانتخابات التشريعية والتحضير لاستقرار زعيمه كير ستارمر في مقر الإقامة الرسمية للحكومة البريطانية ومكتب رئيس وزرائها في “10 داوننغ ستريت” المحاذي لقصر “وستمنستر” الذي يشغله البرلمان، وقصر “باكنغهام” الذي يستقر فيه الملك، توقّع المراقبون ان يسارع قادة حزب العمال الذين سيتولّون السلطة، للاعتراف بالدولة الفلسطينية الى جانب الدولة الإسرائيلية، تكريساً لبعض ثوابته في السياسة الخارجية وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ومنها “التزامه بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في سياق إحياء لعملية سلام تفضي إلى حل الدولتين”.
فكل التقارير التي انتهت اليها الأبحاث التي أعادت حزب العمال الى السلطة، توقفت في تفاصيلها عند الثوابت التي تتمسك بها قيادة الحزب منذ زمن بعيد، من دون ان تتجاهل ما أراد الإشارة اليه الرئيس الجديد للحكومة كير ستارمر في تشكيلته الوزارية التي تمّ الإعلان عنها بعد ساعات من تكليف الملك تشارلز له تأليفها في السادس من تموز الجاري، جامعاً فيها من يمثل حزبه وخبراء من التكنوقراط المتخصصين، في إطار مساعيه لمعالجة أولويات العمل الحكومي، وإعادة إطلاق الاقتصاد المتباطئ وتصويب السياسات الخارجية للمملكة، وخصوصاً في منطقة الشرق الاوسط واوكرانيا وغيرهما من الأزمات الدولية، في دولة خرجت من غلافها في الاتحاد الأوروبي لتحرّر توجّهاتها الداخلية والاقتصادية والخارجية.
كانت كل التهم الملحقة بالمملكة البريطانية بالنسبة الى القيادات الفلسطينية خصوصاً والعربية عموماً، تقول انّها “الام الفعلية” لولادة “الكيان الصهيوني” منذ عقود وتحديداً عقب انتهاء فترة الانتداب البريطاني على “أرض فلسطين الجغرافية” وبعد عشرين عاماً على صدور “وعد بلفور” وقبل ان يصدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتقسيمها الى ثلاثة كيانات جديدة، والذي حمل الرقم 181 وصدر في 29 تشرين الثاني 1947 بأكثرية 33 صوتاً مع 13 صوتاً ضدّ وامتنعت 10 دول عن التصويت من بينها بريطانيا نفسها. وإن قضى القرار بانتهاء فترة الانتداب فقد شكّل الدولة العربية بمساحة تمتد على نحو “11,000 كـم 2” أي ما يمثل 42.3% من فلسطين الجغرافية. وثانيها الدولة اليهودية، بمساحة تبلغ “15,000 كـم 2” أي ما يمثل 57.7% من جغرافية فلسطين، وثالث الكيانات كان ذلك الذي سيجمع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة لهما تحت وصاية دولية.
لم تكن هذه الإشارة إلى هذه المحطة من تاريخ فلسطين في بداية القرن الماضي إلّا لفهم اي إشارة إلى ما ينادي به العرب اليوم منذ قمة بيروت 2002 بالدولة الفلسطينية حتى حدود العام 67 وعاصمتها القدس الشرقية، ذلك انّ مسلسل الحرب العربية ـ الاسرائيلية انطلق عام 48 عقب قرار التقسيم، وقد شنّت الدول العربية هجوماً على الدولة اليهودية المفترضة، وانتهت باحتلال أجزاء كبيرة من الدولة العربية وارتكبت عشرات المجازر في حق الشعب الفلسطيني، إلى ان تمّ التهجيرإلى دول الجوار ومنها لبنان الذي نال أكبر الأعداد القادمة من الجليل الغربي، كما في اتجاه سوريا والاردن ودول اخرى كمصر وغيرها، بنحو متفرّق ميّز حجم الانتشار الفلسطيني في العالمين العربي والغربي.
وإلى هذه التفاصيل وما تعنيه بمفهومها التاريخي، بقيت الدولة اليهودية من أولى الدول التي ترفض “مشروع الدولتين”، على رغم مما نالته الفكرة من إجماع عربي وتأييد دولي بلغ الذروة في الفترة الاخيرة، باعتراف أكثر من 154 دولة مشاركة في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة قبل أشهر، كما بالنسبة الى إيران التي تشاركها الرأي المنظمات الفلسطينية الدائرة في فلكها، على رغم من الجهود التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية وتوجّت الاعتراف الدولي بها بإقامة السلطة الفلسطينية في مؤتمر أوسلو منذ العام 1993، قبل ان تجهز اسرائيل على أبرز ما يميزها فدمّرت “مطار غزة” على أراضٍ من مدينة رفح جنوب القطاع، بعد سنوات قليلة على بنائه وإعادة تزخيم برامج الاستيطان فيها، وتنكّرت لعشرات التفاهمات بين السلطة الفلسطينية ودولة اسرائيل الى العام 2008، عندما سيطرت “حماس” على القطاع وأخرجت السلطة منها نهائياً، على رغم من اعترافها بدفع اجور ورواتب موظفي القطاع العام فيه.
وعلى وقع هذه المعطيات التي لم يرق اليها اي شك، يبدو اليوم انّ المجتمع الدولي الذي ينادي بحتمية “حل الدولتين” يلاقي مصاعب عدة. ذلك انّ الإدارة الاميركية التي سبق لرئيسها الحالي جو بايدن ان رسم لها موقعاً في برنامجه الانتخابي في الدورة الماضية، لم يقم بأي خطوة تؤدي الى قيام هذه الدولة، وهو اليوم ما زال يعوق اي مبادرة في مجلس الأمن الدولي تؤدي الى هذه الخطوة، بحجة انّه لم يأتِ أوانها بعد. ولذلك بقي مشروع هذه الدولة حلماً بالنسبة الى الفلسطينيين، ولم ينفع اعتراف كثير من الدول الاوروبية ومن اميركا اللاتينية وخلافها لترجمة هذه الخطوة.
ولذلك، جاء بيان الخارجية البريطانية الذي واكب زيارة وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي، ليترجم سياسات حزب العمال البريطاني الخارجية، عندما اعلن انّ لامي الذي اجتمع خلال عطلة نهاية الأسبوع برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس طرح “مساراً موثوقاً به ولا رجعة فيه نحو حل الدولتين”. وهي خطة قال البيان إنّها تهدف إلى “الضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار في غزة وإطلاق الرهائن”. واضاف: ” انّ الموت والدمار في غزة أمر لا يمكن تحمّله. هذه الحرب يجب أن تنتهي الآن بوقف فوري لإطلاق النار يلتزم به الجانبان”. وانتهى البيان الى كشف أنّ لامي “سيبحث مع نتنياهو إدخال 680 طناً من المساعدات البريطانية إلى قطاع غزة”.
عند هذه الملاحظات تنتظر الأوساط الديبلوماسية ما ستسفر عنه هذه الزيارة ومدى الرهان على نتائجها، في وقت ما زالت اللغة الطاغية للقيادات العسكرية ومزاجيتها التدميرية، وهو أمر يخضع للتشكيك. فليس هناك اي أمل اليوم في تحقيق هذه الأمنية البريطانية، في انتظار ان تصدق الادارة الاميركية من قبلها ومعها الدول الكبرى التي ما زالت تناصر اسرائيل في حربها، ولم تنجح في كبح جماح رئيس حكومتها المتعطش إلى دم الفلسطينيين. فكيف بالنسبة الى دولة تسعى الى رفع التهمة الموجّهة إليها منذ “وعد بلفور” قبل 104 سنوات من اليوم. وهل يمكن ان تنجح حيث فشل الآخرون؟

الجمهورية – جورج شاهين