من الإرهاب الفكري إلى وهم «السلاح الدفاعي»… ومن ذريعة «الإستراتيجية الدفاعية» إلى مصادرة الدولة

رشا صادق

ليس السلاح وحده ما يُرهب اللبنانيين منذ أكثر من نصف قرن، بل الفكرة التي تُحيط به. فكرةٌ فُرضت بالقوة، ثم ثُبّتت بالتخوين، وروّجت لها سردية مغلقة حوّلت النقاش إلى جريمة، والسؤال إلى خيانة. هكذا تحوّل لبنان، تدريجياً، من دولة إلى ساحة، ومن مجتمع إلى جمهور يعيش على إيقاع الحروب المؤجّلة.

هذا الإرهاب الفكري والسياسي لم يولّد فقط أزمات متلاحقة، بل أنتج أجيالاً اعتادت العيش تحت منطق الحرب الدائمة، وتماهت مع السلاح كهوية، وتكيّفت مع غياب الدولة بوصفه أمراً طبيعياً. أجيال تربّت على فكرة أن الأمن لا تصنعه المؤسسات، بل البنادق، وأن السيادة تُقاس بميزان القوة لا بشرعية القرار.

يكفي اليوم أن يُطرح سؤال بديهي: من يملك حق السلاح؟ ومن يقرّر الحرب؟ حتى تتحرّك آلة التخوين بسرعة فائقة، وكأن الدولة نفسها أصبحت فكرة مشبوهة.

كذبة «السلاح الدفاعي»

يُقال إن السلاح «دفاعي لا هجومي». لكن الدفاع ليس شعاراً سياسياً. الدفاع، في أي دولة، قرار سيادي مركزي، تتخذه السلطة الشرعية وتنفّذه مؤسسة عسكرية واحدة في لبنان هي الجيش اللبناني.

«الاستراتيجية الدفاعية»: تسوية لغوية لواقع غير سيادي

منذ سنوات، يُعاد تدوير مصطلح «الاستراتيجية الدفاعية» كمخرج توافقي للأزمة. لكن هذا المصطلح، في الممارسة اللبنانية، لم يكن سوى حلّ لغوي لمشكلة سياسية. ففي الدول، الاستراتيجية الدفاعية تعني وحدة السلاح، وحدة القرار، وحدة القيادة. أما في لبنان، فيُراد لها أن تتعايش مع ازدواجية السلاح، ما ينزع عنها معناها الفعلي.

إذا كانت الاستراتيجية الدفاعية تعني الإبقاء على قرار الحرب والسلم خارج المؤسسات الدستورية، فهي ليست استراتيجية، بل شرعنة غير مباشرة لغياب الدولة، وتأجيل متعمّد لأي حلّ حقيقي.

السلاح كورقة تفاوض لا كأداة ردع

في هذا السياق، تكتسب التصريحات الأخيرة بعداً أكثر وضوحاً. فحين يؤكّد نعيم قاسم أن استعادة الحزب لقدراته العسكرية تبقى دفاعية ولا تشكّل تهديداً للمستوطنات في شمال فلسطين، يرى خصومه في هذا الكلام اعترافاً غير مباشر بأن السلاح لم يعد يُستخدم كأداة ردع، بل كورقة تفاوض سياسية.

فإذا كان السلاح لا يُستعمل في القتال، ولا يشكّل خطراً مباشراً، فما جدوى الاحتفاظ به؟ الإجابة اذاً تكمن في ربط هذا السلاح بتسويات أكبر، لا تُدار من بيروت، بل من عواصم القرار الدولي، حيث تلعب الولايات المتحدة دور الوسيط الأساسي، فيما يعود القرار النهائي إلى طهران.

هنا تكمن المعضلة. فبين إصرار الحزب على الاحتفاظ بسلاحه، وامتناع الولايات المتحدة حتى الآن عن فتح قنوات تفاوض جدية مع إيران، يبقى لبنان عالقاً في منطقة رمادية، رهينة انتظار تسويات خارجية لا يملك مفاتيحها، ولا يتحمّل كلفة تأجيلها وحده.

ما يُفرض على اللبنانيين اليوم ليس خيار دفاع، بل نمط حياة قسري، يقوم على تعليق الدولة، وتجميد السيادة، وربط الاستقرار الداخلي بميزان قوى إقليمي متقلّب.

وكما كتب آدم سميث Adam Smith في كتابه «ثروة الأمم»: «أولى واجبات السلطة السيادية هي حماية المجتمع من العنف والغزو». وما يُمارَس خارج هذه السلطة لا يمكن تسميته دفاعاً، بل هو مصادرةٌ لوظيفة الدولة، وتشويهٌ لمعنى السيادة، وتكريسٌ لواقعٍ يُدار فيه البلد بالقوة لا بالقانون.