كلمة سيمون كرم عن حبيب صادق و”حرب الإسناد”.. ​ألقى السفير سيمون كرم الكلمة الآتية خلال إحياء ذكرى المناضل الراحل حبيب صادق في جامعة القديس يوسف، يوم 2 تموز 2025، والتي قاطعها بعض أنصار “حزب الله” وخرجوا من الصالة:

​نتذكر حبيب صادق
​ضئيلة، تكاد لا تُذكر، مساهمة حبيب صادق في صناعة الهالة التي تحيط به في حياته ثم بعد رحيله.
​حبيب صادق الرمز صنعه خصومه على تنوعهم واختلاف مصالحهم.
​خصوم إصلاح النظام السياسي، عندما كان الإصلاح ممكناً، دون الانزلاق إلى جحيم النزاع الأهلي.
​خصوم بناء دولة العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية بعد الحرب؛ المُهرولون بالسياسة والاقتصاد معاً إلى الإفلاس الذي تتخبط فيه البلاد.
​خصوم استكمال إنجاز سياسي فريد، كان حبيب ركناً كبيراً فيه، وصولاً بالبلاد والناس إلى ما نحن عليه اليوم.
​لهؤلاء الخصوم يجب توجيه الشكر؛ فلا فضل لنا، نحن محبوه ومريدوه؛ لا فضل لنا في هذا الألق، الذي يشع من حبيب في الحياة وفي الغياب.
​هو لم يصنع شيئاً، سوى أنه كان هو ذاته، في الصدق والاستقامة والأنفة واحترام الذات والآخر؛ في قوة وصلابة ووضوح الموقف؛ هو ذاته في الشجاعة الأدبية والشخصية؛ في ازدراء المال والمناصب والمخاطر!
​كل هذه مقْرونة بالتواضع إلى حد الِانْمِحَاء، والأناقة في التعبير إلى حد الأدب الرفيع، وخفة الظل في تناول الكبيرة والصغيرة من المسائل، وسعة الصدر والثقافة والدراية!
​نشتاق إلى “الأستاذ حبيب”؛ إلى حكمته وسعة أفقه وصواب نظرته وعميق صبره في أيامنا هذه؛ أيام الوجع والحداد والحزن والمرارة والمهانة والضياع.
​عاش اللبنانيون “حرب الإسناد” منقسمين بعمق حول ضرورتها ومسؤولية مباشرتها؛ وزاد الانقسام حدة حول شروط إنهائها ومصير ما تبقى من سلاحها.
​شروط إنهاء الحرب جاءت أفدح من الحرب؛ وما يزيد الأمور بشاعة أن الذين أذعنوا لوقف إطلاق نار من طرف واحد مع إسرائيل، يطلقون ناراً سياسية وأمنية كثيفة على الداخل، ساعين إلى بعث ما عاشوه غلبة، على مدار سنوات قصيرة عجاف، وأدى بهم وبالبلاد وأهلها إلى هذا الخراب العميم.
​يهاجمون الدولة لاعتمادها الخيار الدبلوماسي، وهو الوحيد المتاح بعد النكبة؛ والجيش بحجة أنه عاجز عن حماية البلاد والناس؛ و”القوات الدولية” لسعيها تنفيذ القرارات الدولية؛ وسائر اللبنانيين إذا قالوا لهم: كفى.
​جميع هؤلاء خونة ومتآمرون؛ وبقايا السلاح وبقايا العسكر وبقايا الأمن وبقايا الإعلام مُستَنفَرون لتأديبهم وإخضاعهم.
​هذا فيما لا يضاهي استمرار الضربات الإسرائيلية إلا دقتها القاتلة؛ في إصابة مراكز هي في المبدأ سرية، ومسؤولين عسكريين وأمنيين وتمويليين، يُفترض ألا تعرفهم إلا الحلقة الضيقة في البيئة الحاضنة!
​صبر على إسرائيل التي أردت إلى الآن ما يفوق مئتي ناشط منذ أوقفوا نارهم، ولا صبر على الداخل، رئاسة وحكومة وجيشاً ومجتمعاً مدنياً ومراكز ثقافية وجامعات وجماعات ومدن وبلدات؛ بما فيها تلك التي فتحت بيوتها وقلوبها للنازحين في محنتهم؛ ثم كلمة جارحة مع كل إطلالة، آخرها: “باقون على قلوبكم”.
​لا نملك إزاء هذه العدائية الطافحة إلا أن نلوذ بالدولة. نطالبها بالدفاع عن نفسها أولاً؛ أن تدافع عن رموزها ومؤسساتها الكبرى، محراب سيادتها الوطنية ومسؤوليتها عن اللبنانيين. أن تعلن أنها الملاذ والمرجع لكل ضحايا هذه العدوانية؛ وهم السواد الأعظم من اللبنانيين المستهدفين بالترهيب والذين ذاقوا طعم الإرهاب؛ تخويناً وغطرسة واغتيالات، ويخشون عوداً على بدء.
​أن تقول الدولة نيابة عن هؤلاء جميعاً ومفوضة منهم، أن التمسك بالسلاح تمسك بالاحتلال.
​القلق الممزوج بالخيبة يقتضي مصارحة الدولة بأن ما آلت إليه أحوالها يوشك أن يقوض مصداقيتها، وأن انطلاقة بدت واعدة، آخذة بالتحول إلى سراب ومجرد ذكرى طيبة.
​أحاول استلهام وضوح حبيب صادق وأتشجع بحضور أصدقائه لمناشدة دولتنا ومصارحتها بقساوة ما نحن فيه وعليه:
​المبادرة إلى حرب الإسناد؛ وهي أخطر أنواع الحروب من حيث مسؤولية مباشرتها؛ ثم خسارة الحرب؛ ثم الإذعان لوقف إطلاق نار من جانب واحد؛ كل هذا وضع البلاد أمام أخطر معادلة سياسية إزاء إسرائيل والعالم الخارجي؛ قوامها فتح مجال الإجهاز على ما تبقى دون تمييز كبير، بين من بادروا إلى الحرب ومن تنكبوا المسؤولية بعد الهزيمة؛ ما هو جار نموذج على القادم.
​الخيار الدبلوماسي مضمونه قبول التفاوض في ظل ميزان القوة القائم، ثنائياً وإقليمياً؛ وهو السبيل الوحيد المتاح أمام الدولة؛ متاح لها الاستعانة، وإلى حد معين الاستقواء بأصدقاء لبنان، عرباً ودوليين؛ ولكن غير متاح أن يفاوض هؤلاء نيابة عنها؛ فيما تكتفي بالمطالبة بإزالة الاحتلال.
​طرح اتفاقية الهدنة هو المدخل التفاوضي الصحيح؛ دون أوهام حول أن الحل المرجو يمكن أن يتجاوزها. والأخذ بالاعتبار أن الدولة التي وقعت هدنة 1949، اتخذت قراراً سياسياً كبيراً، جوهره قدرتها المحسومة على فرض الأمن، دون شريك أو منازع، على حدودها وكل أراضيها؛ مقابل التزام إسرائيل بموجبات الهدنة. معادلة حققت للبنان عقدين من الاستقرار حتى “اتفاق القاهرة”.
​منطق التفاوض انطلاقاً من “اتفاقية الهدنة” هو الرجوع إلى دولة الهدنة.
​وهدف التفاوض الرئيسي إنهاء احتلال التلال الخمس وملحقاتها. وتحديد وترسيم الحدود البرية وتثبيت اتفاق تحديد الحدود البحرية، رغم ما تضمنه من تفريط في موارد البلاد الاقتصادية. والذهاب بمزارع شبعا إلى التحكيم الدولي مع إسرائيل وسوريا على حد سواء.
​الهدف الموازي: التفاوض على العبور من “إنهاء الأعمال العدائية” الذي يحكم الواقع الحالي، وشروط إنهاء العداء بين الدولتين؛ تأكيداً وضماناً لتمكّن لبنان من إعادة إعمار الجنوب؛ بالموارد الوطنية المتاحة والمساعدات العربية والدولية؛ وعودة الناس إلى البلدات والقرى، ومباشرة الإعمار.
​هذا سوف يكون طريقاً شاقاً وطويلاً؛ شرطه الوحدة الداخلية، كي لا يصبح مستحيلاً وتتضاعف المخاطر المحدقة. لا التفاوض مع إسرائيل نزهة؛ ولا إعادة إعمار الجنوب والضاحية والبقاع ممكن في ظل استمرار حال العداء مع إسرائيل؛ ولا استقطاب الاستثمارات العربية والدولية لإنهاض الاقتصاد متاح في ظل استمرار هذا الواقع.
​الحكمة والحنكة في آن معاً، ربط هذه المصالح الوطنية الكبرى؛ الأمن لإعادة الناس إلى أرضها والمساعدات لمباشرة الإعمار؛ والاستثمارات لإنهاض الاقتصاد؛ ربطها جميعاً بمجرى التفاوض في بعديه العربي والدولي. مع الاعتبار أن الخارج يتحدث بلغة الاستثمار أكثر بأضعاف من المساعدات.
​لطالما ردد حبيب صادق أن الأصل هو تماسك الداخل؛ وأن الوحدة الداخلية، على صعوبتها، تضاعف القوة الوطنية، وتتيح تحقيق الأهداف. وفقاً لهذا المنطق، حبيب كان ركناً في تحقيق ربيع 2005، بمخاطره وأوجاعه؛ وسوف يتعين على الذين يرون فيه عروتهم الوثقى السعي لتحقيق إجماع وطني يحقق للبلاد أمناً مستداماً، وللناس عودة وإعماراً وثباتاً في الأرض والتراث والإيمان.
​أهل جبل عامل هم أهل إقدام وتضحية ومَهابة؛ يعرفون من التاريخ قبل الحاضر أن حفظ الذات يقع في حسن الخيار وحكمته، إزاء صروف الدهر ومحن الزمان؛ قلب صفحة العداوة ليس أمراً هيناً، ولكنه على مرارته، هو حفظ لهم قبل سائر مواطنيهم؛ وضمانة لحياتهم أعزاء موفورين في أرضهم؛ في حاضرهم ومستقبل أجيالهم.
​كأس مرة على كل اللبنانيين؛ أن يُقدموا على تجرعها مُجمِعين. قرار عبور من لحظة الشدة القصوى ورهان على غد ممكن.