كان عيد الضيعة بامتياز، ترتدي معه ساحة الكنيسة حلّة مزركشة الألوان. فقبل أسبوعين كان الشبّان يتهافتون ويتبارون في قصّ الأوراق الملوّنة، ويلصقونها على الخيطان التي لا تلبث أن تجد في الفضاء أرجوحة ناعمة لها، يتعالى صوت تصفيقها فرحًا بالعيد آنًا، وتتهامس أخرى، وفي كلا الحالين لا تخفي فرحتها.
أمّا الصبايا فكنّ يدلفنَ إلى الكنيسة قبل حلول العيد، ونلحق بهنّ نحن الصغار، فنساهم في تنظيف “البنوك” قبل إزاحتها لتنظيف الأرض مكانها. وتمتدّ الأيدي الناعمة بورع ومهابة إلى ذلك المذبح الرخامي، تحت صورة رئيس الملائكة ضمن إطارها المزروع باللمبات الملوّنة، ونحن نحاذر الكلام، وإن اضطررنا فهمسًا، فيسوع حاضر في بيت القربان؛ وتروح الأنامل تنقّل قطعة صغيرة من القماش المبلّل جيئةً ورواحًا، ثمّ تعمد إلى مثلها، ولكن جافّة، في مرحلة أخيرة، حتى إذا آنسنا في المذبح ما يليق به من بريق أعدنا “المزهريّات” البنّيات اللون إلى أماكنها، وقد اصطفّت فيها زنابق آلى الوالد على نفسه أن يقدّمها كلّ عام للمناسبة.
وشأن كلّ عيد كبير يأتي دور ” الشماعدين”، والأواني النحاسيّة، فإذا بالمنافسة البريئة على أشدّها، حيث تئنّ قطع الليمون الحامض المعصورة والممزوجة بالرمل تحت الأيدي، وإن صغيرة، لإزالة ما ترسّب على النحاس، ولا تمرّ دقائق حتى تغدو الأواني زاهية مزهوّة ببريقها كأنّها تُستعمل للمرة الأولى. فيوم العيد، أكان الميلاد أم رأس السنة

أم الفصح أم مار مخايل شفيع الضيعة، يجب أن تكون الكنيسة غير شكل، فلا تخلو مساحة منها، أرضًا وسقفًا وجدرانًا، من مسحة كفّ أو وسيلة أخرى حيث لا مجال للوصول، فإذا الحجارة، بحدّ ذاتها، تضحك.
وتحلّ ليلة العيد وسط هذه الأجواء البهيجة، فإذا العيد في كلّ بيت، لا سيّما وأنّ من يحملون اسم الشفيع كثيرون. وخلال النهار، تكاد لا ترى امرأة أو صبيّة، فجميعهنّ في المنازل، يُعددن الأطباق المتنوّعة لمائدة المساء. فالليلة عيد، والضيعة مقصودة في هذه الليلة المشهودة. وهل يعقل أن تطأ أقدام زائر ومهنّىء بالعيد أرض البيت، دون أن يأكل ” لقمة” مع بركة العيد.
وتزفّ الساعة، ويقرع الجرس “أوّل دقة” إيذانًا بقرب بدء القدّاس، فيتراكض أهل الضيعة إلى الكنيسة، التي لم تكن تتّسع للجميع في المناسبات الكبيرة، فيتوزّع الشباب خاصّة في أرجاء الساحة، وإن تكن تضيق بعض الشيء في تلك الليلة، بعد أن يكون “أبو سماحه” قد اقتطع منها زاوية حدّدها بفاصل خشبي، لينصرف إلى مدّ عجينة “التمريّة” وتقطيعها على تلك الرخامة البيضاء، وترتيب “حشوتها”، قبل أن يلقيها في الزيت الحامي، بلا شفقة، ثمّ لا يلبث أن يقلّبها بملقط خاص إلى أن تغدو إلى لون الذهب أقرب، فيرفعها من المقلاة الكبيرة، ويصفّها في ذلك “اللكن” الأبيض فوق مصفاة يتسرّب الزيت من خلالها؛ ويطيّب خاطرها، في نهاية المطاف، ببعض رشّات من السكر الناعم تمتزج بالعجينة وهي بعد ساخنة. ولطالما تسرّبت رائحة الزيت إلى الكنيسة أثناء القدّاس، فعَلا سعال الكاهن والمرتّل، ولكن من غير جدوى. “فأبو سماحه” منهمك بالقلي، ولا تكتمل فرحة العيد إن لم تذق ولو قطعة واحدة – ولن تكتفي – من “تمريّته”.

وتدقّ الدقّة الثانية فالثالثة فدقّة “البدوة”، وإذا سكون داخل الكنيسة، لا تمضي معه ثوانٍ حتى تدوّي عبارة: باركي يا نفسي الرب… بصوتٍ ترتجّ له أرجاء الكنيسة، وتتقاذفه أمواج الأثير عبر مكبّر الصوت المركّز وسط السنديانة قرب القنطرة، حيث باب “السكرستيا” الّذي يدخل عبره الكاهن ليلبس اللباس الكنسي، قبل أن يطلّ على المصلّين من أحد جانبي المذبح.
وتترنّح النفوس مع الصلوات، ويشعر المؤمنون بأنّ فيهم شيئًا يتغيّر، إنّه فعل الروح؛ ويتناولون جسد الرب، ويقبلون البركة النهائية ليزيّنوا صدورهم وهم خارجون بصورة صغيرة لشفيع الضيعة تعلّق على أيسر الصدر أو أيمنه تبعًا لمن تعلّق على صدره أكان ذكرًا أم أنثى، وإن هكذا خلقهما الرب تمجيدًا لاسمه، في حين تجود يمناهم بما يستطيعون وضعه في “الصينية”، قرب شموع تقطر دموع الفرح والإيمان، وتتجمّع مختلفة الأشكال على صفحة الرمال المغروسة فيها.
أمّا في الساحة فمنظر آخر، معانقات ومعايدات، وأصوات تتعالى، وجرس يلهب الأجواء برنينه، والشباب يتناقلون الحبل دون أن تشعر بأنّه انتقل من يد إلى يد، فالقرع فرحًا ما زال كما هو. وتخلو الساحة شيئًا فشيئًا إلاّ من بعض الصغار، لينصرف الكبار إلى الاحتفال على طريقتهم، فتدوّي المفرقعات من العيار الثقيل، على ضفاف النهر، لتتردّد أصداؤها في الجوار، ولم يكن أحدٌ من ساكنيه يقلق للأمر، فهذه الليلة مشهودة، ولم تكن تلك الحرب اللعينة قد أتلفت أعصاب الناس، بعد، وجعلتهم يتنبّهون ويتوتّرون لأيّ صوت. وكانت مهمّة بعض الشباب قبل العيد جمع الزجاجات الفارغة، لملئها بالرمل والبارود وتحضير المفرقعات بواسطتها.
وإن أنسَ فلا ولن أنسى تلك الليلة التي دبّ الحماس فيها بمن كانوا على مائدة البيت، عندنا، وكانت يدا الوالدة قد طرّزتها بأشهى المقبّلات وأفخر الأصناف التي كان الوالد ينتقيها من محلاّت متخصّصة، لن أنسى ما لجأ إليه الشبّان من وسيلة لقرع الجرس، إذ وصلوا حبله بحبل أطول امتدّ إلى شرفة بيتنا، وهو تحت ساحة الكنيسة، فقرعوا الجرس بهذه الطريقة الفريدة. إنّه هوس الشباب المبرّر ليلة العيد.
ولكم كنت أنتظر تلك اللحظة قبل يوم العيد، حين أرى والدي خارجًا من مكتب المدير في تلك المدرسة التي جاورَت بيتًا غدا منّي وغدوتُ منه في ما بعد، حيث كان يطلب لنا الإذن بالتعطيل يوم العيد، وهو عنده يومٌ مقدّس، والعيد “بطالة” في مقامه.
أجل! هكذا كان العيد، غير أنّ المحزن بل المبكي أنّه لن يعود كما كان، على الرّغمِ من التحضيرات والاحتفالات الّتي ما زالتْ تواكبُه برعايةِ أيدٍ مبارَكة؛ “فكلّ شيء تغيّر، حتى الأحلام”.



