بشير والدقائق الأخيرة (سعيد غريّب)

كانت الساعة تشير إلى حوالى الرابعة من بعد ظهر الثلثاء الواقع فيه 14 أيلول 1982. كانت الأعصاب مشدودة، فبشير يعقد اجتماعاً أسبوعياً، في بيت الكتائب الملاصق لمبنى إذاعة صوت لبنان القديم. وكنت قد وصلت إليه، قبل ربع ساعة، للعمل ضمن فترتي. ولمرّةٍ جديدة، إنتظرت وزملائي في مكتب التحرير انتهاء اجتماع الرئيس المنتخب ويدنا على قلبنا.

قلقنا كان مبرّراً في ظلّ الأجواء الصعبة من المفاوضات والأخبار المتداولة عن اجتماعات غير موفّقة في إيصال لبنان إلى برّ الأمان. والرئيس كان يتنقّل في بحر من الألغام الخطيرة. كان مقرراً أن يكون ذلك الثلثاء الثالث والأخير يزور فيه بشير بيت كتائب الأشرفية الذي منه انطلقت حياته الحزبية والعامة. وتطلّعنا بأمل إلى الموعد الآتي لحفل القسم الرئاسي وانتقال الرئيس رسميّاً إلى المقرّ الرئاسي في بعبدا.

كنّا قد علمنا في الإذاعة أنّ بشير سوف يزورنا الخميس، أي بعد يومين حاملاً رؤيته في السياسة والإعلام، ولمناقشة صورة دورنا في مسيرة مؤسسة الدولة. ومع ذلك، لم نشأ الانتظار، بل ترقّبنا خروجه ذلك النهار، لنقول له ولو من النافذة والشرفة: رجاءً، إصعد من اليوم إلى بعبدا حيث دعاك الرئيس الياس سركيس للمكوث، حفاظاً على حياتك.

لكنّ الزلزال كان لنا في المرصاد. فما هي إلّا دقائق قليلة حتّى أحسسنا بأنّ المبنى الذي نعمل فيه قد اهتزّ بقوّة مخيفة وكأنّه انتقل من مكانه. لم نسمع الصوت المدوّي ولا تحطّم حتّى زجاج مبنانا. فالانفجار الذي دوّى صداه، عند الرابعة وعشر دقائق، في بيروت وضواحيها مستهدفاً الرئيس ورفاقه الثلاثة والعشرين كان مختلفاً وعميقاً، بالنظر إلى المواد المتطوّرة داخل الحقيبة المفخّخة التي زرعت لاغتيال الرئيس.

أين بشير؟ هل صحيح أنّه سلم ونقل إلى المستشفى للمعالجة؟ لم يكن أحد يملك الجواب بعد. إحتشدت القوى الأمنية من جيش وقوى أمن ومناصرين، وكان البحث عن الرئيس في بدايته قائماً على عملٍ حذر بالأدوات البسيطة، وبشكل شبه يدوي بحثاً عمّن سلم من الانفجار، ليصل بعده إلى استخدام الرافعات.

في انتظار الخبر اليقين، تحوّل مبنى صوت لبنان إلى تجمّع لأركان الدولة والمكتب السياسيّ الكتائبي. الشيخ أسعد جرمانوس، مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، جلس معنا على الدرج، وطمأننا أنّه رآه سالماً، ربّما لأنّه لا يريد أن يصدّق أنّ بشير رحل. فتحنا أثير الإذاعة، زميلي منصور عون وزميلتي ماغي فرح وأنا، لنبشّر المستمعين أن لبنان سلم وبشير بخير. لكنّ واقع الحال كان مناقضاً تماماً .

حوالى السابعة مساء أبلغنا مدير الإذاعة جوزف الهاشم بوجوب إلغاء نشرة أخبار السابعة والربع ووقف البثّ الإذاعي. لم تمض ساعة من غموضٍ ثقيل خيّم على الأجواء، لنعرف أنّ بشير ورفاقه قضوا جميعاً في الانفجار. اللبنانيون باتوا ليلتهم قلقين من بزوغ الفجر. أما أنا فحملت الخبر القاتم إلى منزلنا. وفي السابعة والربع صباحاً بثّت صوت لبنان نبأ اغتيال الرئيس بشير الجميّل، بصوت باكٍ لأومورفيا لوقا.

في مطلع الأسبوع التالي، فتحت المدارس أبوابها، وكنت لا أزال أمارس مهنة التعليم. وبادرني أحد التلاميذ: “ما تعليقك على اغتيال الحلم؟” أجبته بلغة المسابقات: “بشير نال علامة عشرة على عشرة في الامتحان الشفهي، لكنّ الاغتيال حال دون تقديمه الامتحان الخطّي لنعرف كم هي العلامة”. سألني آخر: “وماذا لو أجرى الامتحان الخطيّ؟” أجبت: “هذا سؤال افتراضي. ممكن عشرة وممكن صفر” قال: “رأيك؟” قلت: “قتلوه لأنّ العشرة مع شخص مثله كانت مضمونة. لكن نقطة الصفر المحتملة سببها أن هذا البلد لا يحكم ولن يحكم”.

في الأيّام العشرين قرّروا التخلّص منه بتقاطع إقليمي ودولي والسؤال يبقى: هل كان يدري أنّ الغطاء سحب منه، وأنّ صاحب الغطاء تخلّى عنه وترك الانفجار يحصل؟