تحليل عن مقال الأمير تركي الفيصل الأخير !

الفوضى النووية ومعادلة الإذعان الشاملة

ناجي الغزي/ باحث سياسي واقتصادي

كتب الأمير تركي الفيصل، مقال مهم في موقع The National، يمثل لحظة مفصلية في الخطاب السياسي الخليجي، بل والعربي الأوسع. إذ إن صدور هذا الكلام من شخصية بمكانة الأمير تركي – وهو رجل أمن سابق، ودبلوماسي، وابن الملك فيصل – يرفع المقال من مستوى الرأي إلى مستوى الرسالة الاستراتيجية الموجهة للعواصم الغربية.
فما قاله لم يكن انفعالاً أو دعاية، بل نقد منظّم وعميق لبنية النظام الدولي، محوره أن “مفاعل ديمونا” ليس منشأة نووية فقط، بل دليل حي على سقوط مبدأ العدالة الدولية، وتحول “النظام القائم على القواعد” إلى أداة تمييز عنصري ذري، تعاقب الضعفاء وتحمي الأقوياء.

أولاً: ديمونا كرمز لسقوط الشرعية النووية الدولية

يشير الأمير إلى أن إسرائيل تملك ترسانة نووية كاملة خارج معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT) وخارج رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. هذا بحد ذاته ليس جديداً، لكن الجديد هو أن يصدر هذا التوصيف من شخصية خليجية رسمية، وبوضوح غير مسبوق، مقترناً بدعوة غير مباشرة – لكنها شديدة الخطورة – لتطبيق مبدأ العدالة بالقوة: “لو كنا في عالم عادل، لكانت قنابل B2 أمطرت ديمونا”.
هنا، لا يتحدث الأمير عن مبدأ أخلاقي فحسب، بل عن انهيار قانوني كامل: حين يُسمح لدولة بانتهاك منظومة عدم الانتشار لعقود، دون أي تفتيش أو محاسبة، بينما يُهدد الآخرون بالقصف لمجرد التفكير في التخصيب السلمي، فإن النظام الدولي قد مات.

ثانياً: حين تحكم القوة وتغيب العدالة

يشير النص – سواء من خلال الأمير أو التحليل المرافق له – إلى لحظة انتقالية خطيرة: لم يعد النظام الدولي قائمًا على القانون، بل على القوة المجردة. لم تعد هناك معايير، بل إذعان وترويض واستثناءات.
أميركا – في هذا السياق – لم تسقط كقوة كبرى، لكنها سقطت أخلاقياً واستراتيجياً كنظام مرجعي. إنها الآن، وفق المقال، تتصرف كـ”دولة مارقة”، لا بوصفها زعيمة عالم حر. وهذا التوصيف مهم، لأنه يحوّل الحديث من لوم السياسة الأميركية إلى نزع الشرعية الدولية عنها.

ثالثاً: التهديد ليس المقصود به إيران فقط

وهنا واحدة من أذكى المقارنات التي أجراها الأمير: لماذا تُعتبر تصريحات إيران عن “زوال إسرائيل” تهديداً وجودياً، بينما لا تُعتبر تصريحات نتنياهو المتكررة منذ 1996 عن تدمير النظام الإيراني تهديداً مقابلاً؟
هذا ليس فقط تفكيكاً لمعيار الكيل بمكيالين، بل كشف الوظيفة الحقيقية للتصعيد ضد إيران: إنها ليست مواجهة مباشرة، بل أداة ترويض للمنطقة كلها، وبخاصة دول الخليج.
استهداف إيران، كما يقرأ الأمير، فعل تأديبي رمزي، الغرض منه إرسال رسالة: الردع النووي حكرٌ على إسرائيل، وأي محاولة من غيرها – حتى وإن كانت لأغراض سلمية – ستواجه بالقصف والإذلال.

رابعاً: العنف الدبلوماسي

هنا ينتقل خطاب الأمير تركي من العلن إلى ما بين السطور.
حين يقول إن قصف إيران قد ترافق مع مطالب مالية بمليارات من السعودية، فهو يكشف بداية مرحلة “الابتزاز الاستراتيجي”، حيث تُستخدم “الهيمنة العسكرية” كرافعة لتحصيل مكاسب سياسية ومالية من الحلفاء، لا الأعداء.
بمعنى آخر، فإن استهداف إيران كان رسالة غير مباشرة لدول الخليجإما الإذعان الكامل لقيادة أميركية – إسرائيلية جديدة للمنطقة، أو أنتم التاليون.

خامساً: لو كان ترامب منصفًا لقصف ديمونا

هذه الجملة قالها الامير ” لو كان ترامب منصفًا لقصف ديمونا ” وهي بذاتها قد تُدوّي في الإعلام الغربي والإسرائيلي لأنها تنسف أسطورة الحصانة النووية الإسرائيلية، وتُخرج الخليج من موقع “المتفرج” إلى موقع المراقب الجريء الذي يسمي الأشياء بأسمائها.
الجملة لا تطالب فعلياً بقصف ديمونا، لكنها تقول ضمناً، إما تطبيق القواعد على الجميع، أو لا شرعية لأي قاعدة.

من أخطر النقاط التي وردت في المقال تحذير الأمير من أن الثقة بين الحاكم والمحكوم في العواصم الغربية تتآكل. يضرب مثالاً على ذلك بفوز المرشح المسلم زهران ممداني في نيويورك، رغم مواقفه المعادية لإسرائيل واللوبي الصهيوني.
هذا التحول في الرأي العام الغربي – مناصرة فلسطين، كسر الخوف من اللوبيات، وفضح ازدواجية الخطاب – يحمل قوة ارتدادية ستضغط على الحكومات الغربية عاجلاً أو آجلاً. وهذه ورقة استراتيجية يجب أن يُبنى عليها عربياً، بدل الاكتفاء بالرهان على علاقات الحكومات.

سادساً: الرسالة الأخيرة

ما قاله الأمير في النهاية هو أن منظومة عدم الانتشار فقدت معناها بالكامل. أصبحت سيفًا في يد الغرب، موجهاً فقط نحو خصومه، وليس أداة لضبط التوازنات ومنع الحرب. في لحظة الحقيقة، يُقال للعرب: أنتم مادة مرنة تُشكل بحسب الحاجة. والرسالة الحقيقية خلف قصف إيران هي: أنتم مستهدفون أيضاً، والردع حق حصري لإسرائيل فقط.

إن المقال، رغم هدوئه، يحمل بين سطوره بذور تمرد سياسي خليجي على الصيغة القديمة للتحالف مع واشنطن. خطاب القوة الخشنة، والابتزاز المالي، والحصانة الإسرائيلية، لم تعد مقبولة.
صوت الأمير تركي هو صوت تيار سعودي نخبوي بدأ يرفض إذلال السيادة مقابل الحماية. وهذا لا يعني بالضرورة تفكك التحالف، لكنه يعني إعادة تعريف شروطه، وربما قلب المعادلة: من التبعية إلى التوازن.
ما قاله الأمير تركي الفيصل في سطوره الجريئة ليس مجرد رأي، بل وثيقة استراتيجية تُحدد ملامح مرحلة جديدة في العلاقة بين الخليج والغرب، وتدق ناقوس الخطر من الفوضى النووية القادمة إذا استمر الغرب في حماية استثناء إسرائيل على حساب استقرار المنطقة بأكملها.

الأمير تركي الفيصل

تركي بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود (المولود في 15 فبراير من عام 1945، بمدينة مكة المكرمة)، أمير من العائلة المالكة آل سعود وابن الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية وحفيد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، كان سابقاً رئيس الاستخبارات العامة السعودية بمرتبة وزير بين عامي 19772001م، وفي عهد الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود أصبح سفيراً للمملكة العربية السعودية في بريطانيا حتى عام 2005م، ثم عين في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود سفيراً للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة الأمريكية حتى أعفي من منصبه في 29 يناير عام 2007 وعين بدلا عنه الدبلوماسي السعودي عادل بن أحمد الجبير. وهو الابن الأصغر للملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود من زوجته الملكة عفت الثنيان آل سعود.

نشأته وتعليمه

تلقى الأمير تركي الفيصل تعليمه الابتدائي والمتوسط في مدينة الطائف بمنطقة مكة المكرمة بمدرسة الأمراء بقصر والده الملك فيصل بن عبد العزيز، ثم التحق بمدرسة لورنسفيل الراقية الخاصة في ولاية نيوجيرسي الأميركية وأنهى فيها تعليمه الثانوي متخرجاً عام 1963. ومن ثم دخل جامعة جورج تاون في العاصمة الأميركية واشنطن. كان يرى نفسه مهندساً معمارياً ولكن لم يوفق، وغير دراسته ومن ثم حصل على بكالوريس آداب في العام 1968.

الحياة السياسية

في عام 1973 عين مستشاراً خاصا لوالده الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود بالديوان الملكي السعودي، ثم رئيساً للاستخبارات العامة السعودية في عام 1977، وظل في هذا المنصب حتى عام 2001، ثم عين في عهد الملك فهد سفيراً للمملكة العربية السعودية لدى المملكة المتحدة البريطانية وذلك بعد إعفاء غازي القصيبي من منصبه، ثم أصبح في عام 2005، سفيراً للمملكة العربية السعودية لدى الولايات المتحدة الأمريكية خلفا لابن عمه صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الذي ظل سفيراً منذ أن عينه الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود عام 1983، وقد أعفي من منصبه كسفير للمملكة العربية السعودية لدى واشنطن في فبراير عام 2007.

وسبق للأمير تركي الفيصل أن زامل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون خلال فترة دراسته الجامعية، وكان وثيق الصلة بعلاقات العمل والتعاون مع واشنطن خلال فترة رئاسته جهاز الاستخبارات العامة السعودية أقام علاقات وثيقة بوكالة الاستخبارات الأمريكية CIA. ويُعرف عن الأمير تركي الفيصل ثقافته السياسية العامة الواسعة ونشاطه الواسع ومشاركاته العديدة على الصعيدين الثقافي والاجتماعي. وهو أحد مؤسسي «مؤسسة الملك فيصل الخيرية»، كما أنه رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث الدراسات الإسلامية. وعلى الجانب البريطاني يشغل الأمير تركي منصب رئيس مجلس إدارة مركز الأمير تشارلز للفنون الإسلامية والتقليدية، بجانب كونه رئيساً مشاركاً في «مجموعة سي 100» المتصلة بالمنتدى الاقتصادي العالمي منذ عام 2003. كما أنه المسؤول الأول عن المعارض التعريفية والتوثيقية عن والده الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود والذي جاء باسم «الفيصل .. شاهد وشهيد».