صفحات من حرب لبنان: حذار من بوسطه جديدة!

جوزف القصيفي

كنت شاهدا على الحرب اللبنانية منذ الشرارة الأولى في الثالث عشر من نيسان 1975 إلى الثالث عشر من تشرين من تشرين الأول 1990، وما بينهما من حروب ومجازر ومعارك، ومواجهات بين أبناء الصف الواحد الذين أطلق عليهم الكاردينال البطريرك مار نصرالله بطرس صفير لقب ” الاخوة- الاعداء”. وعلى الرغم اني كنت في تلك الفترة انتمي إلى ” حزب الكتائب اللبنانية ” واحد ناشطي مصلحة الطلاب،وخصوصا دائرة الجامعة اللبنانية فيها، كنت احد صلات الوصل على طريقتي وبمعرفة كبار المسؤولين في الحزب بزملائي في الضفة السياسية الاخرى الذين استظلوا خيمة ” الحركة الوطنية” وكان لهذا التواصل الأثر الايجابي في استبقاء بعض الجسور سالكة بين الأطراف المتنازعين. ومنذ أن وضعت الحرب اوزارها كتبت في صحف :” السفير” ،”العمل”، ” الديار”،” الكفاح العربي”،” البيرق”،” النهار” ومجلتي” الحوادث”و” لا ريفي دو ليبان” داعيا إلى المصالحة الوطنية الكبرى على اساس المصارحة وتنقية الذاكرة، وتجديد الحياة معا بالوحدة لا بالتشرذم والاستمرار بسياسة التقية والحذر والكمون، والانتظار عند أول مفترق أو سانحة للانقضاض على آلاخر. وبمناسبة الذكرى الخمسين على نشوب الحرب في لبنان سمحت لنفسي العودة إلى أوراق احتفظت بها عن المناسبة التي عشتها منذ اللحظة الأولى مرافقا رئيس حزب الكتائب يومذاك في جولته إلى عين الرمانه وفرن الشباك بعيد وقوع حادثة ” البوسطة”حيث تبينت ملامح القلق والفزع على مستقبل لبنان في عينيه. ومواكبا له كما غيري من المعنيين في محطات أخرى كان فيها المدافع الأول عن ” صيغة لبنان الفريدة” و” لبنان – الرسالة”. أقول هذا الكلام من باب الشاهد على أحداث جرت كنت اتولى تدوينها بصفتي كصحافي وكناشط ومسؤول حزبي، وذلك بعد سبعة عشرة عاما على استقالتي من الكتائب. قبل حلول الذكرى الثالثة والعشرين للحرب اللبنانية في الثالث عشر من نيسان 1998،طلب مني رئيس الحزب عامذاك المرحوم الدكتور جورج سعاده قبل ان يتمكن منه المرض وضع مسودة لبيان – وثيقة لتوجيهها إلى اللبنانيين في هذه الذكرى، لتكون الكلمة الفصل في موضوع تشعب الحديث عنه، واصابت شظاياه الكتائب، وجاء هذا الحرص في وقت كان يتلقى فيه الكثير من السهام يسددها ضده رفاق درب ونضال. الوثيقة التي احتفظ بها مكتوبة بخط اليد شدت على آلاتي:” يهم حزب الكتائب وللمرة الاخيرة،أن يمحو ما علق في أذهان الكثيرين بعدما اثبتت التحقيقات القضائية وشهادات المعنيين أن الحزب ليس مسؤولا عن حادثة عين الرمانه في 13نيسان 1975وان أحدا من الكتائبيين لم يشارك فيها.” وتضيف الوثيقة”فهذه الحادثة لم تتسبب بها الكتائب ،ولا هي إفتعلت الاستفزازات لأنها كانت تدرك خطورة الظرف ،وهي كانت قد بادرت إلى التفاهم مع قيادة الثورة الفلسطينية على تشكيل لجان مشتركة،بهدف تطويق الفتنة التي كانت تلوح في الافق وتتبدى بأشكال شتى على الاراضي اللبنانية كافة، ولذلك فانها تعتبر أن هذه الحادثة كانت مدبرة لضرب الحزب واعاقة تياره الوطني.” ويورد البيان- الوثيقة سلسلة من المواقف الصادرة عن ياسر عرفات، والاحزاب والقوى الوطنية والتقدمية التي طالبت ليل 13- 14نيسان 1975 ب” معاقبة رؤؤس المجزرة والمخططين لها واقتحام المناطق التي تحتلها ميليشيا الكتائب وتطهيرها واعتقال المجرمين جميعهم، حل حزب الكتائب، طرد وزراء الكتائب من الحكم ومقاطعة هذا الحزب وطنيا وسياسيا وقطع كل حوار معه…” إلى أن المفارقة التي سنوردها من دون الدخول في التفاصيل الكثيرة التي تضمنها البيان الوثيقة،هو سعي كبار المسؤولين في ذلك الحين ل” تجاوز الحادثة وطيها على الطريقة اللبنانية وذلك بحمل الكتائب على تسليم اي كان” ويتوسع البيان – الوثيقة في إلقاء الضؤ على الاجتماع الذي عقد ليلة الحادثة في مقر قوى الأمن الداخلي.وعن هذا الموضع جاء:” أخذ رئيس الحكومة يبحث عن مخرج وإخراج فطلب من الوزيرين الكتائبيين جورج سعاده ولويس ابو شرف المساعدة على تسليم كم واحد مقابل تسليم العناصر الفلسطينية التي سببت الحادث ومهدت له، فكان جواب الوزيرين أن لا معلومات لديها وقالا: على كل حال نحن مستعدون لتسليم اي كتائبي تثبت علاقته بالموضوع.وطلب الوزيران من رئيس الحكومة تزويدها بأسماء الأشخاص الذين أظهر التحقيق علاقتهم ” ويؤكد البيان – الوثيقة أن ما كان يهم الرئيس رشيد الصلح:” لائحة ببعض الأشخاص كيفما كان لأن المقصود تقديمهم بغرض التهدئة”.ويضيف البيان انه مع معرفة الجميل أن القضية هي أكبر وابعد من ” تسليم كم واحد، وتأكده من أن لا حل سوى بقيام السلطة بأنواعها وأن المسألة لن تتوقف بمجرد تسليم من أطلق عليهم أبطال الحادثة فإنه نزل عند إلحاح الوسطاء الذين خالوا عن حسن نية أو سؤ تقدير وقصر نظر أن الذيول ستنحسر،ومسلسل الاحداث سيتوقف عندما يدخل الكم واحد إلى السجن .فاوعز بتسليم من يثبت انه كتائبي من بين لائحة الأسماء السبعة التي وضعتها مديرية الأمن الداخلي.وهكذا تم تسليم مارون الشيتي وحنا عون ، في عملية مؤثرة لم يتمالك خلالها الشيخ بيار من إرسال دمعة غالية، لأنه يعرف انه يسلم بريئين، لا بل فديتين، أو قل فدائيين لا علاقة لهما من قريب أو بعيد بالحادثة. لكن للتهدئة ظروفها واسبابها…لعل وعسى.وقد أمضى الشيتي وعون أربعة أشهر موقوفين في النظارة بتهمة عجز التحقيق عن اثباتها فتمت تبرئتهما.” واورد البيان – الوثيقة سلسلة اعترافات وشهادات على لسان ياسر عرفات ( ابو عمار) صلاح خلف ( ابو أياد) ،خالد الحسن ( ابو سعيد)،محسن دلول، سائق بوسطة عين الرمانه مصطفى رضا حسين ( ابو رضا) الذي نفى في حديث له نشرته مجلة الأفكار عدد 765 الصادر نهار الاثنين 14 نيسان1997 في صورة قاطعة أن يكون أحد الكتائبيين في الحادثة، مؤكدا تمام التأكيد معرفته بالجهة التي قامت بها لعلاقة تربطه بعناصرها والتي قد تكون سببا في نجاته من الموت. وقد أورد في الحديث تفاصيل عن فرار معاون البوسطه قبل أمتار قليلة من مكان الحادثة بعدما الح عليه سلوك هذا الطريق.وكأن المقصود الوصول إلى النتيجة التي اوصلت إليها هذه الحادثة البلاد” في الواقع كانت حادثة ” البوسطه” الشماعة أو ” راجح الكذبة” التي مهدت لحرب طال أمدها، وتشعبت زواريبها، وكان اللبنانيون من كل الطوائف وقودها، وباعدت بين المناطق، وشطرت العاصمة، وفرخت حروبا جوالة، وتسببت باستشهاد مئات آلالاف وتهجيرهم. ولا يبدو أن لبنان تعافى من آثار الحرب وذيولها. ومن الواضح أن لبنان وقع في براثن مؤامرة دولية- إقليمية جعلت منه منصة للانطلاق إلى ملفات أخرى ومعبرا إلى خطط أوسع ، ومنها بناء منظومة من الاتفاقات والمصالح تنسجم مع طبيعة تلك المرحلة. وثمة من يجزم من المحللين أن الحرب اللبنانية مهدت لاتفاق ” كمب ديفيد”، وكانت مدرجة لتفاهمات بين دول المنطقة، فتحت نار القذائف كانت ترسم بدم اللبنانيين والفلسطينيين الذين وقعوا واوقعوا في فخ الحرب، واستدرجوا إلى مستنقع أغرقوا فيه، ولم يجنوا منه إلا خسارة إستراتيجية شرعوا يتلمسون نتائجها اليوم. لكن ذلك كله لا يحجب أن خلافات جوهرية واساسية لا تزال تحكم علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض، وأن عليهم تقديم المشتركات في ما بينهم والانطلاق منها لبناء مستقبل جديد لوطنهم لا يحمل بذور الانفجار الذاتي، لئلا تعود المأساة بوجه أو بآخر. واذا كان لا بد من دعاء، فليكن:” تنذكر وما تنعاد”.ففي الاعادة تدمير شامل للوطن والانسان. فحذار، حذار من ” بوسطه” جديدة و” معاون” يحرفها عمدا عن مسارها.